علم الحركات
كل المحاضرات التي بعثنا بها إليكم تتمحور حول ذلك السر الروحاني الذي يظهر في الرقم خمسة ، كما هو في الوضعيات الخماسية التي شرحناها لكم .
فلقد لاحظنا بأن الحرف ينطوي على خمسة وضعيات وهي الوضعية الفردية والثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية .
وفي هذه المحاضرة نتطرق معكم إلى علم الحركات وهي الفتحة ، والضمة ، والكسرة ، والسكون ، إضافة إلى الشد والمد ، التي تظهر على الحروف في وضعية خماسية أيضا .
هذه الحركات هي التي تخلق الصوت وتحدده ، سواء على مستوى الحرف أو على مستوى الكلمة بأكملها ، حيث أن حرف الباء مثلا عليها فتحة تختلف عنها في حالة الضمة وفي حالة الكسرة وفي حالة السكون وكذلك في حالة الشد والمد .
تمديد الصوت يخلق حروفا بالضرورة ، فلو كتبنا حرف الباء مفتوحا ومددنا صوته لصار با وأدى ذلك إلى خلق حرف الألف وكذلك الكسرة تخلق حرف الياء والضمة تخلق الواو والشدة تؤدي إلى تكرار الحرف المكتوب عروضيا ، أما السكون فتؤدي إلى إعدام هذه الحروف بطبعها حركة ساكنة .
الحركات الثلاثة بالتمديد خلقت ثلاثة حروف وهي الألف ، والواو ، والياء ، وهي حروف ساكنة تدل على التوقف ونهاية الفعل أي نهاية الحركة وتفيد في توقيف بعض السلوكيات السلبية كالتوقف عن إدمان الخمر والمسكرات عموما وتوقيف النزاع بين الزوجين ، وتوقيف العلاقة بين إثنين مجتمعين على فساد ، وتوقيف الألم من الجسم ، توقيف إرتفاع درجة الحرارة ، ونسيان شخص ما ، توقيف الموانع عن الكنوز المطلسمة ، وأمور كثيرة .
الفتحة والضمة في أعلى الحرف تتولى البنية الخارجية بالنسبة للإنسان ، أما الفتحة فتتولى البنية الداخلية له .
تنطلق الفكرة من جوف الإنسان أي بنيته الداخلية ويمثله في ذلك الكسرة ويصلح ذلك في عمليات التخاطر فتبنى كلمات الإرسال بشكل مكثف على الحروف المكسورة أولا ثم الكلمات المفتوحة والمضمومة مع الإبتعاد كلية عن الحروف الساكنة لأنها تقطع الإرسال .
أما الإدغام أو ما يسمى بالشدة ، فهو يظهر في الحروف الشمسية على غرار الحروف القمرية ، فلو كتبنا كلمة الشّمس تظهر الشدة فوق حرف الشين مما يجعلنا نكرر حرف الشين في كتابتها العروضية وهي عندئذ حذفت الشين الثانية كما حذفت النطق بالألف واللام ، والشين الأولى في هذه الحالة هي متحركة أما الثانية فهي ساكنة وبالمثل بقية كل الحروف الشمسية ، ومنه نستنتج بأن كل الحروف الشمسية تمثل الحركة والسكون في آن واحد أي الشيء ونقيضه في وقت واحد .
هذه الحروف الساكنة والمتحركة في نفس الوقت ، وفي شكل من التناقض ، ينطبق على ما ذكرناه حول النقطة كما ينطبق على إسمه الله الذي يدل على إخراج الأشياء من العدم إلى الوجود كفعلين متناقضين مع بعضهما .
وإذا تطرقنا لإسمه الله ، نجد أن حرفي الألف واللام هما حرفان أصليان فيه على عكس الاسماء الشريفة الأخرى التي تأخذ هذين الحرفين بالإضافة فقط كما في حالة المعرفة والنكرة ، ولا يوجد ما يطابق هذا الإسم من الأسماء الحسنى سوى إسمه اللطيف ، ويوافقه من الآيات قوله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ
الشورى/19 وفي ذلك سر عظيم لمن يريد الرزق .
لو حذفنا الألف من إسمه تعالى الله أو اللطيف يبقى الإسم قائما وثابتا دون أن يتأثر بهذا الحذف ، وكذلك لو حذفنا اللام الأولى أو الثانية ، ذلك لأن إسمه الله هو إسم الذات الإلهية وهو منزه عن الكيفية .
بالمنظور الظاهري للمفاهيم نرى أنه لا يمكننا أن نتصور شيئا موجودا ومعدوما في نفس الوقت ، لكن بالمنظور الباطني نرى ما هو عكس ذلك تماما كما يبرهن على ذلك إسمه تعالى الله .
لكل حرف بمعية حركته صدور صوت يختلف عن صوت الحرف الآخر ويضرب في مواقع معينة من الإدراك أو الذاكرة فيخلق التنبيه والإثارة كما يخلق إستجابة أو رد فعل قد تكون إجابية أو سلبية ، وتختلف درجة تأثير الصوت حسب الترتيب الفني أو التقني للحروف والكلمات في شكل من البيان أو القوة البلاغية ولذلك يقول الرسول الكريم إن من البيان لسحر ويؤيد القرآن هذا الحديث مما يدل بأنه صحيح .
التقنيات الإلهية في ترتيب الحروف والكلمات فاقت كل تصور بحيث تصل بالإنسان الذي له حسن الذوق وإرهاف في الحس إلى السكر المشروع وقد يفقد صوابه في كثير من الأحيان كما يظهر ذلك على النبي ص أثناء نزول الوحي ، وكما يظهر على بعض أولياء الله الصالحين عند الوصول لحالة المكاشفة الباطنية ، كما يظهر جليا حالة العلاج بالقرآن الكريم لبعض المرضى حيث يفقد المريض صوابه ويبدأ في الكلام بما يوجد في عقله الباطني ، وللأسف الشديد ينخدع المعالج في أنه يتكلم مع جني .
وللصوت الناتج عن حركة الحروف بداخل الكلمة بحركاتها المختلفة ، علاقة كبيرة جدا بحاسة السمع ، ولذلك لما أراد سبحانه وتعالى تنويم أهل الكهف أوصد حاسة السمع لديهم كما في قوله بعد بسم الله الرحمن الرحيم فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا الكهف / 11
عندما تجتمع الحروف لتشكيل الكلمة ، تجتمع معها مجموعة من الأصوات المختلفة الناتجة عن إختلاف الحركات ، واختلاف هذه الأصوات بين الحرف الواحد أو بين مجموعة من الحروف يخلق صوتا موسيقيا يضرب الوجدان .
وصل الإفرنج إلى هذه الحقيقة في عصرنا الحالي وأصبح يعالج بواسطتها حتى الأمراض المستعصية عن طريق الإختيار العلمي لبعض الكلمات ، في حين نعتبرها نحن نوعا من الشعوذة والدجل بالرغم من توجيهات القرآن ، فكان من المفروض أن نتول نحن صدارة هذا العلم من حيث أنه وصلنا عن طريق الوحي ، في حين تولاه الإفرنج الذي وصلهم عن طريق العقل ، وشتان فرق بين الوحي والعقل .
العلاج بالكلمات وصل إليه الإفرنج خاصة الصين واليابان بعد دراسات طويلة تطورت إلى مفهوم ما يسمى بالشعور الجمعي الموحد الذي نكتسبه نحن المسلمون من صلاة الجماعة ، وذلك في شكل طاقة متكونة من الروح الجماعية أثناء إتحادهم في المشاعر والأحاسيس والمعتقدات .
هذه الاصوات بالمفهوم الظاهري نسميها بالصوت الموسيقي ، أما بالمفهوم الباطني فنسميها بصوت الطاقة من حيث التاثير على الطبيعة وما فيها وما عليها من كائنات ، كما يظهر ذلك في بعض الأبيات الشعرية والأغاني حيث يؤدي بعضها إلى الحماس ، وبعضها الآخر يؤدي إلى الإبتهاج ، وبعضها يؤدي إلى الحزن والبكاء ، والبعض يؤدي إلى التذكر وهكذا حسب التخصص الذي ترمي إليه هذه الأصوات .
هذه الظواهر تحدث بسبب تأثير الصوت الطاقوي الذي جاء من تموقع الحروف على بعض المراكز الواعية في المخ بسبب ترتيبها الحسي كما جاء من ترتيب الكلمات ترتيبا حسيا أيضا ، بحيث يسيطر على العواطف والوجدان . ألم تر أن الخيل تشرب بالصفير؟ وأن موسيقى الحرب تؤدي إلى الشجاعة والإقدام ؟ وصوت الطبل والمزمار يؤدي إلى حركات جسدية راقصة وقد يؤدي في كثير من الأحيان إلى السقوط في غيبوبة والنطق بكلمات غيبية ؟ ألم تر ذلك يظهر جليا عند أصحاب الحضرة المقدسة عندما يتطرقون لذكر الله والصلاة على نبيه ، ذكرا يتم بعمق إحساسهم ، وبحركة ألسنتهم ، وحركة أجسادهم طبقا لقوله بعد بسم الله الرحمن الرحيم وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ الإسراء/44
لاحظ الآن المثال الأول الذي تم من صنع الإنسان : لقد خلق الله الإنسان من الطين في تقويم جيد . هذه الجملة هي من تعبير الإنسان الذي لا يحسن ترتيب الحروف والكلمات بسبب جهله لفنياتها ، فهي لا تأثير لها على الإدراك إلا بشكل ضعيف . ولاحظ الآن المثال الثاني الذي تم من صنعه عز وجل : بسم الله الرحمن الرحيم هو الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين السجدة / 7 إنك بتأملك لهذه الكلمات الشريفة وحسن ذوقك لها ، تلمس طاقة منطلقة من هذه الكلمات لتسري مع العروق إلى المراكز العصبية والإدراك فتشعر بنشوة عظيمة وهي النشوة التي تحدث عند التأثير البلاغي و ما خلقته طاقة الحروف والكلمات المرتبة في صورتها الفنية الرائعة .
حركة الشدة تحدث بضغط اللسان على نقطة معينة من اللثة فهي تشير إلى عملية توتر ، والتوتر بدوره يشير إلى إسمه تعالى القابض ، ويعاكسها المد الذي يشير إلى الإسترخاء ، وهذا الإسترخاء بدوره يشير إلى إسمه تعالى الباسط . ولاحظ الآن أن هناك مفاهيم إلتقت كلها في نقطة واحدة وهي نقطة العدم والوجود ، ونقطة الحركة والسكون ، وهذه المفاهيم هي : النقطة ، الله ، اللطيف ، القابض ، الباسط ، وفي ذلك أسرار عظيمة جدا .
القبض والبسط عمليتان توجدان في كل حركة من حركات الكون ، وفي كل حركة من الحركات الحيوية للجسم ، في مثل حركة القلب من إنقباض وانبساط ، وحركة المعدة ، والحركة الدودية للأمعاء ، وأجفان العيون من غلق وفتح ، وحركة الرئتين من شهيق وزفير ، وحركة العضلات من شد ومد ، إلى غير ذلك ، وقد يدفعنا ذلك إلى الشك في أن لهذين الإسمين علاقة باسم الله العظيم الأعظم والله أعلى وأعلم ، وإذا كان كذلك فإن الاسماء الخمسة التي نبحث عنها والممثلة في العلاقة خمسة هي : الله ، اللطيف ، القابض ، الباسط ، ويبقى الإسم الخامس قيد البحث .
إذا كتبنا حروف الإسمين الشريفين بدون تكرار لحروفها يكون ذلك كالتالي : ا ، ل ، ق ، ب ، ض ، س ، ط ، وهي سبعة حروف . الالف واللام والباء هم الحروف المشتركة بين حروف الإسمين ، وذلك ما يتناول تعديل الدورة الدموية في الجسم ، وتعديل نسبة السكر في الدم ، وخلق التوازن النفسي ، كما سنشرح ذلك في المحاضرة المتعلقة بأسماء الله الحسنى بإذن الله . وتقبلوا سادتي الطلبة ، وسيداتي الطالبات أخلص التحيات يبعثها إليكم رابح ميساوي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق