اعلان

السبت، 20 يونيو 2015

أسباب الإختلاف





تختلف الناس في منظورها نحو فكرة ما باختلاف توجههم الثقافي ، وباختلاف الخلفية الثقافية التي توجه مسارهم الفكري بصفة عامة.
يرجع سبب هذا الإختلاف إلى مرحلة متقدمة جدا من عمر الإنسان..
إلى أيام الطفولة الأولى .. وهي تلك التي تسمى بالمرحلة الفمية..
ترتبط المرحلة الفمية بالعلاقة المزدوجة والتي تحدث بينه وبين أمه في فترة الرضاعة.. حيث يكون الطفل مرتبطا إرتباطا كاملا بأمه نتيجة للعلاقة البايولوجية التي تحدث بينهما.. إلى جانب تلك العلاقة السايكولوجية ..
فالأم وما تقدمه للطفل من الرضاعة ، تجعل هذه الرضاعة تخضع لآليات يمكنها أن تؤثر في شخصية إبنها مستقبلا ، وتحدد حتى إتجاهه الفكري.. وقد تتسبب في إصابته ببعض الأمراض المتعلقة بالجهاز الهضمي والتي توضع تحت إسم الإضطرابات الغذائية.. ومن بينها قرحة المعدة ، أو إضطرابات القولون[1] في كبره.
وقد يخطأ الأطباء حينما يرونها أنها نتيجة لإنتانات جرثومية تستلزم العقاقير الطبية .. فالمرض لا يحدث إلا في المنطقة التي يكون لها الإستعداد لهذا المرض..الإستعداد العصبي بطبيعة الحال.. وما دور الميكروب إلا ذلك الدور المتأخر من مراحل المرض.. حيث يهجم عندما تكون منطقة الإصابة جاهزة.
والطفل يتلقى هذه الرضاعة من أمه طبقا لحالتين مختلتين :
- الحالة التي يتلقى فيه الطفل الرضاعة من أمه مباشرة بعد البكاء والصراخ والتعبير عن الشعور بعدوانية هذه الأم نحوه.. وما يتلقاها إلا بعد نحيب وألم ومعاناة كبيرة..
إنه في هذه الحالة يتعلم ميكانيزما أوليا يتراءى له فيه بأن الحياة قاسية ، ومتعبة ، ولا تؤخذ الأمور فيها إلا بعد جهد ومعانات ، يتم فيها الإعتماد على نفسه ، ومواجهة الحياة مواجهة عدوانية وبالقوة التي تستحقها..
وتجد مثل هؤلاء يميلون لحب السلطة من أجل مسك زمام الأمور بأيديهم.. كما تسيطر عليهم غريزة حب التملك  la possession..
كما تجدهم ضحية السجون والمحاكمات القانونية نتيجة لانقيادهم وراء الشعور بالعدوانية..
أما الفئة المثقفة منهم ، فيميلون إلى الإنتقادات اللاذعة والهدامة في كثير من الأحيان.. ولا يعترفون إلا بما هو ملموس من معطيات العلم التي تتراءى وراء التجريب..
فالأحكام النظرية ، والمقولات السمعية ، التي يستبدل فيها الإنسان عينيه بأذنيه ، ملغية ومحذوفة تماما من منهجهم المعرفي .. وقد تجد مبادراتهم الذاتية ساطعة في أي موضوع كان ، فيميلون للبحث بأنفسهم لا في الإستماع لغيرهم..
- الحالة التي يتلقى فيها الطفل هذه الرضاعة من أمه كأول مصدر بيولوجي وسايكولوجي ، بصورة لا تتطلب أي مجهود .. فهو ينال حليب أمه في كل وقت دون بكاء أو صراخ أو معاناة..
فأمه تعطيه ثدييها بصورة مبكرة ومسبقة قبل أن يشعر الطفل بحاجته إليهما.. وقبل أن يشعر بالجوع..
لقد قامت أمه بإعدامه دون أن تدري.. لم تترك الفرصة لنمو أنا طفلها نموا طبيعيا ، فذاب في أناها..
هذا الطفل يتعلم ميكانيزما أوليا يتراءى له أن الحياة سهلة وبسيطة ولا تتطلب أي معاناة ولا مجهود.. ينال الإنسان نصيبه دون التعبير عنه.. إنه سيتلقى ما يحتاج إليه من أمور الحياة ، وما يحتاج إليه من معرفة من خلال الآخرين دون أي جهد أو تعب .. وهنا يبدأ الإستعداد لانفصال الأنا عنه ليعيش بأنا الآخرين نتيجة لاعتماده عليهم مثلما كان يعتمد على أمه في كل شيء.
فمبادرته الخاصة في الموضوع ، إنعدمت بانعدام هذا الأنا الذي ذاب في أنا أمه ، وسيزداد ذوبانا في شخصيات الآخرين ..
سيبحث عنهم بطبيعة الحال في الكتب ، والجرائد ، والمجلات ، والقنوات التلفيزيونية ، ومواقع الأنترنيت.. وفي نظره أن كل كلمة يقولونها هي صحيحة لأبعد الحدود..
ولا يستطيع أن يعرف أن مجموع الواحد مع الواحد هو إثنين إلا إذا سألهم عن صحة ذلك.. وهو ما يسمى بمرض الإرتياب..
تتعرض هذه الفئة إلى حالة فقدان الثقة بالنفس ، والتعرض لمرض الإرتياب.. إلى جانب إنعدام جوهرهم الميتافيزيقي المتمثل في فقدان الأنا ، وزوال تلك الفطرة الربانية فيهم..
سيتغلب الجانب السمعي على الجانب الحسي لديه.. أي تتغلب أذناه على عينيه..
وبالتالي تتغلب الرؤيا الخارجية عن رؤيته الداخلية ، ومن هنا تبدأ المعاناة في شكلها الحقيقي دون أن ينتبه إليها ، بطبيعة الحال لأن إنتباهه لا يمكن إلا بواسطة الأنا الذي إنعدم بضربات الجلاد القادمة من خارج نفسه..
ومن الأعراض الشائعة لهذه الحالة هو شعور الإنسان بأن زمام أمره قد أفلت من يده.. لا يستطيع أن يقوم بشيء.. ولا أن يعمل شيئا.. خائر القوة ، فاقد الإحساس بطعم الحياة ذلك لأنه يشعر بشعور الآخرين ويأكل بفمهم .. وسيعلل ذلك باسباب أخرى ، كالشعور بالكبر مثلا.. أو السحر.. أو المس الجني .. أو الحسد ..
وما عليه أن يعلل ذلك إلا باعترافه بأن أناه قد سيطرت عليه أنوات أخرى. وأصبح معدوما ومشلولا لا يستطيع العمل إلا بالغش للمعلومات الخاطئة في كثير من الأحيان..
كما يتعرض هؤلاء إلى حالة التقديس..
فمن تقديس الأبوين ، كمنزهين عن الأخطاء.. إلى تقديس المعلمين والأساتذة .. إلى تقديس بعض الشخصيات من المجتمع.. إلى تقديس أشباه العلماء.. إلى تقديس الأئمة والمفسرين.. إلى الكارثة..
وتتمثل الكارثة في ظهور أعراض بسيكوسوماتية يصعب تشخيصها..
وخلاصة القول هو أن المثقفين يتواجدون على قسمين :
قسم يحفظ المعلومات عن الآخرين خارج إطار نفسه..
وقسم يبحث عن هذه المعلومات داخل إطار نفسه..
قسم يعتمد على التقاط المعلومات إعتمادا على العقل الذي يقف فاشلا في تفسير معظم الأحداث.. ذلك لأنه إستبدل عينيه بأذنيه..
وقسم يعتمد على إلتقاط هذه المعلومات إعتمادا على إحساسه الداخلي وبصيرته..
وشتان فرق بين العقل والبصيرة..
قسم يطل من الشباك باحثا عن أصحاب المعلومات.. كما لو كان في شباك سجن محكم..
وقسم يطل من وراء بصيرته بالموضوع..
قسم يستفتي الناس في كل شيء..
وقسم يستفتي نفسه ، إستجابة لحديث نبيه (ص) :
" إستفتوا أنفسكم "
ذلك لأن الحقيقة هي ذلك الجوهر الذي بعث الله به في قلوب الناس كلهم منذ انحدارهم للحياة.. وما ياتي العالم أو المعلم إلا ليذكرك بها فقط ، لا أن يعلمك إياها.. لأنك تعرفها معرفة اليقين ، وأنت تتجاهلها فقط نتيجة في أنك أعدمت الأنا باستماعك إلى أنا الغير.. ولذلك يقول سبحانه وتعالى :
" وعلم آدم الأسماء كلها "
فأنت تعلم حقائق كل الأشياء في هذه الحياة ، وهي مختبئة في عقلك ، لكنها محجوبة عنك ، بسبب تغطيتها بمعلومات الآخرين.. ولو نزعت الغطاء لعرفت الحقيقة [2].. فلا داعي في أن تتعلمها مغشوشة من الآخرين.. وخذها من داخل نفسك الطاهرة بالطهارة التي خلقك الله عليها..



[1] - راجع الأمراض البسيكوسوماتية في هذه المدونة
[2] - في المواضيع القادمة في التأمل سنتعلم تطبيقيا كيفية نزع هذا الغطاء المريب ، وتشاهد الحقيقة بنفسك..

الأربعاء، 10 يونيو 2015

المبادرة المقلوبة و البـطء السريـع




مهما كانت الوسيلة التي إستعملتها في سفرك الطويل ، الذي سافرته منذ طفولتك إلى اليوم ، ولا تزال فيه وعليه .. فأنت إما أنك سافرت على قدميك.. أو على حصان .. على دراجة .. أو سيارة.. أو ربما حتى الطائرة ..
وفي هذا السفر مشيت بسرعة فائقة .. حسب المركبة التي إستعملتها ..
هذه السرعة ، هي من مميزات العصر الحديث ، وطابعه الخاص الذي يميزه عن بقية العصور الأخرى..
وأنت تفاعلت معه.. فدخلت معه في نفس السرعة .. فأسرع بك هو أيضا..إلى حيث لا تدري.. وقطعت مسافات طويلة جدا عبر مجموعة طويلة من السنوات..
لكن سرعة العصر أسرع منك دائما مهما بلغ إستعدادك للمنافسة..
خرجت من دارك منذ طفولتك.. ولم تعد إلى اليوم ..
وفي يوم ما انتبهت فجأة إلى مغبة الفعل الذي قمت به.. والنتيجة المزرية التي وصلت إليها ..
إنتبهت إلى أنك قضيت وقتا طويلا ، ضاع فيه شبابك كله وانتهى إلى غير رجعة.. وسوف لن يعود .. وانتهت معه طموحاتك وأحلامك وأمانيك .. ومشاريعك التي لم يتحقق معظمها على مستوى الواقع ، إن لم أقل كلها..
وأصبحت حالتك الجسدية والنفسية تلوح بعلامات مرضية لا عهد لك بها أيام شبابك..
بدأ كل شيء يتغير فيك وعليك.. من أمامك وورائك ومن جميع الجهات..
الشكل واللون .. طريقة الكلام..المشي..السلوك الجسدي والنفسي..
التفاءل تغيّر إلى تشاءم.. والأمل حل محله اليأس.. الشعور بالبهجة والسرور حل محله القلق والإكتئاب.. النشاط الجدي تحول إلى شعور بالعجز في كل شيء..
لم يعد طعم الحياة كما كان عليه في السابق..
ولم تعد المشاعر سوى صربات قلق وتشاءم ويأس..
وتبدأ تساءلات غريبة ليس لها جواب مقنع..
قد تتساءل أين كنت طوال هذا الوقت ؟ أين طفولتي ؟ أين شبابي؟ أين أحلامي وطموحاتي؟ أين مركزي ؟
والجواب ليس إلا واحدا ..
السبب يعود إلى أنك عشت غريبا عن نفسك ، وأهلك ، ووطنك ، لمدة طويلة جدا من الزمن..
لقد كنت في خصام شديد مع نفسك..وعدوانية نكراء..
وبررت تصرفاتك اللاعقلانية ، في أنك تعيش من أجل فائدة البشر والمجتمع.. ومن أجل فائدة عائلتك.. فتعبت كثيرا من أجلهم تعبا شديدا ، ضحيت فيه بكل شيء..
وبالرغم من كل هذه المتاعب الشديدة التي مريت بها لسنوات طويلة .. والتضحية التي تبنيتها.. والمجازفة التي تمسكت بها.. والمخاطر التي واجهتها طوال هذا السفر الطويل.. إلا أنك تلقيت كلمات غير لائقة من أهلك وأولادك..
سيقولون بأنك لم تحميهم كما ينبغي من ضربات الجوع..
لم تضمن لهم الأمن الكامل..
لم تضمن لهم مصيرهم..
لم تحقق لهم أحلامهم الرومانسية ..
 و..
كل هذا بالرغم ما قمت من أجلهم من التضحيات والمجازفات ..
وبالرغم من التعب الشديد والغربة الطويلة..
وبعدها تبدأ تشعر بتأنيب الضمير..
سيزداد لديك الشعور بالذنب أكثر وأكثر..
ويظل هذا الشعور يراودك بقية حياتك..
ثم تشعر عندئذ بالندم..
هذا الندم هو القاتل المهذب والفتاك..
سينعكس هذا الشعور بالندم من نفسك إلى جسدك وتبدأ المخالصة الحقيقية..
وأنت عندئذ إرتكبت غلطة فاحشة حينما إستسلمت لهذا الشعور..
كان ينبغي لك أن تندم حقا حقا .. لكن ليس على عدم تحقيقك للأحلام الرومانسية التي يحلم بها أهلك وأطفالك..
هذه الأحلام الخيالية والرومانسية لا يستطيع تحقيقها أي إنسان على وجه الأرض..
فالله وحده هو الذي يستطيع تحقيقها..
بل كان يجب عليك أن تندم على ذلك السفر الطويل الذي قطعته جريا على الأقدام لمدة سنوات طويلة ، هروبا من نفسك وانقيادا وراء أفكار المجتمع الخاطئة..
هذا المجتمع الذي تعبت وضحيت من أجله أيضا رماك في سلة المحذوفات..
في سلة المهملات..
لقد دفع بك إلى التقاعد..
هذا التقاعد هو الصديق الحميم لليأس والدخول في الإكتئاب..
اليأس والإكتئاب سينعكس على الجسم أيضا ، وتبدأ علامات المرض واضحة..
كل هذه التضحيات الضخمة راحت هباء منثورا..أدراج الرياح..
وكانت مكافأتك ثمن بخس .. دراهم معدودة .. فرموك في سلة المهملات ..
وبدأت تتقاضى أجرا يسمى بالتقاعد..
لقد دفعت الكثير والكثير ، لتنال القليل.. مجموعة من الدينارات كل شهر أو شهرين.. مقابل تضحيتك بشعورك بالحياة والإستقرار طوال كل حياتك..
الشعور بالحياة لا يظاهيه دينار ولا ذهب ولا فضة .. إلا إذا كنت تستعيض عنه باستعدادك للقائك مع الله بقلب سليم..
لا شيء أثمن من الشعور الداخلي للإنسان .. إحساسه.. فطرته الربانية التي ولدت معه .. والبصيرة الثمينة فيه.. وليس الفكر الأعمى الذي تلقاه من المجتمع ..
ولا شيء أثمن من التمتع بمشاعرالحياة ، وجمال الكون ، واللذة الموجودة وراء صمت الطبيعة الساكنة.. ووراء الشعور بالإستقرار وراحة البال والضمير..
لقد تخليت عن كل هذه الأشياء الثمينة فوصلت للإستسلام إلى اليأس كآخر خطوة من نشاطك النفسي والجسدي..
هذا الإستسلام إلى اليأس هو النتيجة المباشرة لهروبك من نفسك طوال حياتك..
لكن ..
ولكن ..
إذا شعرت بهذا ، في أي وقت من الأوقات ، قف حيثما كنت.. لا تتحرك..
خذ الأمر بجد ..
عش مدة ساعة على الأكثر لحظة تفكير وتأمل..
أرجع للوراء ..
عش مع أفكارك ببطء..
تذكر أنك سافرت بعيدا وطويلا..
وتركت نفسك بعيدة عنك.. وطفولتك ، وشبابك ، ومشاعرك الفطرية فيك ، وبصيرتك الثمينة..
لقد عشت غريبا.. فانتهت حالتك إلى ما هي عليه الآن..
لكن لا تندم .. فالندم لا يجدي نفعا.. ولا تستسلم لليأس.. بل إفتح صفحة في الأمل من جديد..
 الأمل هو سر الحياة..
لا تكترث على الوقت الذي ضاع.. بل هناك وقت أحسن منه ، وأكبر منه.. وأنفع منه..
وذلك حينما تعيشه بشعورك وبأحاسيسك وعواطفك .. وتعيشه ببصيرتك الثمينة التي خلقها الله فيك .. لا بأفعالك كما كنت تعيش في الماضي..
عش بشعورك ووعيك وإحساسك وبصيرتك التي فقدتها منذ زمان..
تصالح مع نفسك التي كنت في حالة عدوانية معها..
تذكر أنه لا زال الوقت ظهرا.. ولا زال أمامك العصر والمغرب والعشاء ، والشفع والوتر.. وقيام الليل.. والتهجد.. وكذا الفجر والصبح..
إنها دورة الحياة..
والحياة أوسع من شعورك الذي تشعر به..
فشعورك حاليا مليء باليأس والإكتئاب والندم ..
أما الحياة فهي مليئة بالبهجة والسرور..
تذكر كلام سيد الشهداء حمزة عليه السلام ، حينما تكلم مع النبي(ص) في بداية الدعوة حيث قال :
" يامحمد..عندما أجول ليلا بالصحراء.. أدرك أن الله أكبر من يوضع بين أربعة جدران "
إنها العبارة التي تنطلق من قمة الإحساس ..
إنها النتيجة التي ينتهي إليها التأمل..
وعلى هذا يقول حبيبنا ونبينا محمد (ص):
" تأمل ساعة خير من عبادة سبعين سنة "
فنحن لا ندرك الله بالمال ، واكتناز الذهب والفضة.. وربح الدولارات .. ولا بالجاه والقبول.. ولا بالعبادة.. بل ندركه عن طريق التأمل..
لأن العبادة تقربك من الله ، لكنها لا تعرّفك به..
وكذلك لا ندرك الحياة بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، بشعور غائب ووعي شارد..
فالحياة ليس لديها أي معنى إن كانت مجردة من الشعور[1]..
هذا الشعور عاقبناه بضربات الجلاد والإعدام اللاشرعي..
إن الوقت لا زال ظهرا.. وأمامنا طريق آخر أجمل من الأول..
إنه طريق العودة والرجوع إلى الحياة الحقيقية ..
الرجوع من ذلك السفر القديم والطويل ، يختلف تمام الإختلاف عن السفر الأول..
إنه عكسه تماما..
يجب عليك أن تدور بزاوية قدرها ثلاثمائة وستون درجة..
عندما سافرت .. سافرت بأنياب بارزة جاهزة للعض .. هي أنياب العدوانية..
عدوانية نحو نفسك. ونحو المجتمع.. ونحو الله..
لكن أثناء عودتك ، يجب أن تغيّر من ملمح العض إلى ملمح الإبتسامة والحب..
حب كل شيء في الحياة..
حب النفس.. وحب الله.. وحب الوطن.. والمجتمع.. والطبيعة بما فيها .. والأهل والأبناء..
فالحب هو المركبة التي يجب عليك أن تركبها أثناء عودتك من سفرك المؤلم.. وهو الوصفة الطبية الكاملة لعلاج الأمراض الجسدية والنفسية التي أصبت بها ، كما يقر بذلك مجمع العلماء من جميع الأنحاء ..
يجب معالجة الأمور بضدها..
فالميكروب نعالجه بدواء مضاد..
والسم بترياق مضاد أيضا..
لكن العدوانية ليس لها دواء سوى الحب..
هذه العدوانية هي السبب الرئيسي لأمراض العصر بما فيها حتى مرض السرطان ..
عندما يستسلم الإنسان لمشاعر العدوانية يستسلم في نفس الوقت إلى الشعور بالتوتر والإضطراب ، والقلق والإكتئاب.. وإن طال زمانه على هذه الصورة فإنه سيتلقى عقوبات جسدية عنيفة.. ومن جملتها إرتفاع الضغط الشرياني ، وتصلب العضلات ، والروماتيزم ، والإضطرابات القلبية ... إلى غير ذلك من الأمراض التي يسميها الأطباء بأمراض الشدة[2]..
أما عندما يستسلم الإنسان لمشاعر الحب ، فإنه يستسلم في نفس الوقت إلى الإسترخاء وزوال القلق والإكتئاب..
القلق والإسترخاء لا يجتمعان في مكان واحد[3]..
كما يستسلم لمشاعر البهجة والسرور ، بسبب تخلصه من الشعور بالذنب الذي كان ملازما للعدوانية..
سوف يشعر برضاء نفسه عليه ، وبرضائه عن نفسه.. كما يشعر برضوان الناس ورضوان الله.. وبذلك يصل لدرجة الإطمئنان..
الوصول لدرجة الإطمئنان هو القمة الكاملة للصحة النفسية والجسدية..
وهو ما جاء في العبادة الخالصة لوجه الله..
فالصلاة ليس إلا ذلك الشعور بالإسترخاء ، عندما يصلي المسلم المؤمن بخشوع لله سبحانه وتعالى .. ومن وراء هذا الإسترخاء سوف يصل إلى قمة الشعور بالإطمئنان ، وهو في نفس الوقت قمة الشعور بالصحة والسعادة الكاملة.. ومنه الشعور بمعية الله..
الشعور بالمعية الإلهية يبيد الشعور بالوحدة التي تعتبر الدافع الأساسي للعدوانية النكراء..
والحج ليس إلا ذلك اللقاء الذي يحدث بين المسلمين في زمن واحد ومكان واحد ، حيث تتوحد مشاعرهم في حب الله وعبادته..  
إنه ذلك الحب المشترك الذي تتوحد فيه المشاعر ، أمام الخالق الأسمى ، فينعكس ذلك على حب بعضهم البعض..
حب المسلم للمسلم بسبب ديانتهم الموحدة واتجاههم في العبادة..
هذا الحب هو الكفيل بتحطيم العدوانية التي يزرعها الشيطان بين بني البشر .. كما هو كفيل بعلاج الأمراض حتى المتعصية منها بسبب ما تقدمه للجسد والنفس من مشاعر إيجابية..
وإليك تجربة بسيطة ..
إمسك حجرة من الأرض بيدك.. قبّلها..ضمها إلى صدرك..كأنك تعانقها..تخيل أنك تحبها وهي أيضا تحبك حبا جما.. تفاعل معها..عش معها بكل إحساسك وعواطفك ومشاعرك.. لدقائق معدودة .. تخيل أنك لا تستطيع فراقها من شدة حبك لها.. لا تستطيع وضعها على الأرض كما كانت ، وإن وضعتها فضعها برفق..
وبعد دقائق سوف تشعر ببهجة عظيمة تغمر نفسك..واسترخاء في عضلاتك التي كانت متوترة .. ولو قست الضغط قبلا وبعدا لوجدت فرقا كبيرا..
لقد حدث هذا بسبب حلول مشاعر الحب مكان مشاعر العدوان..
حلول المشاعر الإيجابية بدلا من السلبية..
إنها الشعور بالإنسانية الحقيقية..
هذا الحب علمتنا إياه حجرة من الأرض بكل بساطة..
فكم من أشياء لا نعطيها إهتماما.. في حين لو إنتبهنا إليها لأوصلتنا إلى قمة العلم..
ولذلك يقول سبحانه وتعالى:
" وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عنها وهم عنها معرضون "
وهو ما لاحظناه في تجربة العالم نيوتن.. فمن إستفهامه حول سقوط حبة تفاح إلى الأسفل بدلا من إرتفاعها إلى الأعلى توصل إلى مفهوم الجاذبية ، ومنها إلى غزو العلماء للفضاء الخارجي.
وكذلك فعل العالم مندل في الوراثة ، حيث إستفهم حول ظهور أزهار بيضاء بدلا من حمراء أو صفراء ، ومنها توصل إلى باب كامل في علم الوراثة.. ومنها تمت مساعدتنا للدخول إلى لب القرآن الكريم فنصحح مجرى تفسيره في الآية :
" إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه "[4]
كل هذه الأشياء غابت عن أذهاننا بسبب ذلك السفر الطويل القديم ، الذي بدأ مع طفولتنا وانتهى أو كاد أن ينته وقت دخولنا في سن الكهولة والشيخوخة..
عندما سافرنا .. سافرنا بسرعة كبيرة..
أما عند رجوعنا .. فيجب أن نرجع ببطء كبير.. وكبير جدا..
وكلما أبطأنا ، كنا أسرع من أي سرعة كانت..
إذا أردنا أن نسرع ، فيجب عندئذ أن نبطئ..
بالبطء ندرك السرعة التي نريدها..
وسوف يظهر لنا أن هذا نوع من التناقض..
لكن هذا التناقض يزول عندما نجرّب..
الشعور بالتناقض خلقه فكرنا بمبادرة الإنتقاد الأعمى..
والإنتقاد أحد ظواهر العدوانية..
أما الشعور باللاتناقض خلقه إحساسنا وبصيرتنا التي فقدناها أثناء ذلك السفر الطويل.. حينما كنا مغرورين بأنفسنا ، واسترجعناها عند عودتنا من هذا السفر..
إننا سوف نسرع عن طريق البطء..
وهو ما أسميه أنا بدوري بالمبادرة المقلوبة..
عش بطيئا في كل شيء.. تجد نفسك سريعا في كل شيء..
عندما تمشي ، إمش ببطء.. وعندما تأكل ، كل ببطء.. وعندما تتكلم ، تكلم ببطء.. وكذلك تفعل عندما تقرأ أو تكتب.. خاصة حينما تفكر..
عندما تفكر بسرعة فإنك حتما ترتكب أخطاء ، لا تزول إلا بإعادة التفكير من جديد ، وستصل إلى الخطأ مرة ثانية ، وتعيد كرة التفكير ، ثم.. و ثم ... وبعدها ستجد أنك أبطأت في الجواب لأنك أسرعت فيه ..
أما عندما تفكر ببطء فإنك تصل إلى الجواب بسرعة.. وستكتشف أن هذا البطء كان بطء سريعا ، لأنه إنتهى إلى نتائج سريعة..
عندما تشعر بآلام نفسية ، مهما كانت درجتها ، لا تهرب منها ، بل واجها مواجهة بطيئة أيضا.. فكر فيها ببطء .. عش معها بتأني.. إذهب معها بعيدا حيثما ذهبت ، ولا تتوقف إلا بتوقفها.. لا تعاكسها ، بل راقبها فقط مراقبة بطيئة ، وشاهدها من داخل نفسك مشاهدة بطيئة أيضا، وبكل حيادية.. لا تفكر في التخلص منها .. لا تهجم عليها ، بل إستمر في مشاهدتها ومراقبتها.. وستجد بعد لحظات أنها زالت[5] من جذورها عن إعتبارات مجربة..
الغرائز أمور فطرية في الإنسان..ولدت معه.. ومن بينهم غريزتان تتصارعان مع بعضهما..غريزة الحياة وغريزة الموت.. أي غريزة الحب وغريزة العدوان.. وكل غريزة منهما تسعى للتغلب على الأخرى..
فإن تغلبت غريزة الحب كانت الصحة والعافية..
وإن تغلبت غريزة العدوان كان الإضطراب النفسي والمرض الجسدي..
عندما كنت مسافرا ، كنت معتمدا على أذنيك.. على حاسة السمع.. تستمع لما يقوله الناس من نميمة نكراء..
أما الآن فلا تعتمد إلا على حاسة بصرك ولا تؤمن إلا بما تراه عيناك.. وتلك هي قمة الإنسانية.. والدرجة الأسمى من العبادة الخاصة لوجه الله على صرط مستقيم مبعثه الدين الإسلامي الحنيف..
وبهذا تكون قد أدركت الباقي من تقنيات الرجوع التي سوف تستخلصها بنفسك.. والتي تختلف تماما عن تقنيات سفرك الشنيع..
أجل عد إلى نفسك لتعود نفسك إليك..



- سيد قطب[1]
- مجموعة من الأمراض التي تأتي متلازمة مع بعضها في حين واحد..[2]
- د.لوبي[3]
- سورة الإنسان[4]
- عن العالم أوشو و مريم نور[5]