تختلف الناس في منظورها نحو فكرة ما باختلاف توجههم الثقافي ،
وباختلاف الخلفية الثقافية التي توجه مسارهم الفكري بصفة عامة.
يرجع سبب هذا الإختلاف إلى مرحلة متقدمة جدا من عمر الإنسان..
إلى أيام الطفولة الأولى .. وهي تلك التي تسمى بالمرحلة الفمية..
ترتبط المرحلة الفمية بالعلاقة المزدوجة والتي تحدث بينه وبين أمه في
فترة الرضاعة.. حيث يكون الطفل مرتبطا إرتباطا كاملا بأمه نتيجة للعلاقة
البايولوجية التي تحدث بينهما.. إلى جانب تلك العلاقة السايكولوجية ..
فالأم وما تقدمه للطفل من الرضاعة ، تجعل هذه الرضاعة تخضع لآليات
يمكنها أن تؤثر في شخصية إبنها مستقبلا ، وتحدد حتى إتجاهه الفكري.. وقد تتسبب في
إصابته ببعض الأمراض المتعلقة بالجهاز الهضمي والتي توضع تحت إسم الإضطرابات
الغذائية.. ومن بينها قرحة المعدة ، أو إضطرابات القولون[1] في كبره.
وقد يخطأ الأطباء حينما يرونها أنها نتيجة لإنتانات جرثومية تستلزم
العقاقير الطبية .. فالمرض لا يحدث إلا في المنطقة التي يكون لها الإستعداد لهذا
المرض..الإستعداد العصبي بطبيعة الحال.. وما دور الميكروب إلا ذلك الدور المتأخر
من مراحل المرض.. حيث يهجم عندما تكون منطقة الإصابة جاهزة.
والطفل يتلقى هذه الرضاعة من أمه طبقا لحالتين مختلتين :
- الحالة التي يتلقى فيه الطفل الرضاعة من أمه مباشرة بعد البكاء
والصراخ والتعبير عن الشعور بعدوانية هذه الأم نحوه.. وما يتلقاها إلا بعد نحيب
وألم ومعاناة كبيرة..
إنه في هذه الحالة يتعلم ميكانيزما أوليا يتراءى له فيه بأن الحياة
قاسية ، ومتعبة ، ولا تؤخذ الأمور فيها إلا بعد جهد ومعانات ، يتم فيها الإعتماد
على نفسه ، ومواجهة الحياة مواجهة عدوانية وبالقوة التي تستحقها..
وتجد مثل هؤلاء يميلون لحب السلطة من أجل مسك زمام الأمور بأيديهم..
كما تسيطر عليهم غريزة حب التملك la possession..
كما تجدهم ضحية السجون والمحاكمات القانونية نتيجة لانقيادهم وراء
الشعور بالعدوانية..
أما الفئة المثقفة منهم ، فيميلون إلى الإنتقادات اللاذعة والهدامة
في كثير من الأحيان.. ولا يعترفون إلا بما هو ملموس من معطيات العلم التي تتراءى
وراء التجريب..
فالأحكام النظرية ، والمقولات السمعية ، التي يستبدل فيها الإنسان
عينيه بأذنيه ، ملغية ومحذوفة تماما من منهجهم المعرفي .. وقد تجد مبادراتهم
الذاتية ساطعة في أي موضوع كان ، فيميلون للبحث بأنفسهم لا في الإستماع لغيرهم..
- الحالة التي يتلقى فيها الطفل هذه الرضاعة من أمه كأول مصدر
بيولوجي وسايكولوجي ، بصورة لا تتطلب أي مجهود .. فهو ينال حليب أمه في كل وقت دون
بكاء أو صراخ أو معاناة..
فأمه تعطيه ثدييها بصورة مبكرة ومسبقة قبل أن يشعر الطفل بحاجته
إليهما.. وقبل أن يشعر بالجوع..
لقد قامت أمه بإعدامه دون أن تدري.. لم تترك الفرصة لنمو أنا طفلها
نموا طبيعيا ، فذاب في أناها..
هذا الطفل يتعلم ميكانيزما أوليا يتراءى له أن الحياة سهلة وبسيطة
ولا تتطلب أي معاناة ولا مجهود.. ينال الإنسان نصيبه دون التعبير عنه.. إنه سيتلقى
ما يحتاج إليه من أمور الحياة ، وما يحتاج إليه من معرفة من خلال الآخرين دون أي
جهد أو تعب .. وهنا يبدأ الإستعداد لانفصال الأنا عنه ليعيش بأنا الآخرين نتيجة
لاعتماده عليهم مثلما كان يعتمد على أمه في كل شيء.
فمبادرته الخاصة في الموضوع ، إنعدمت بانعدام هذا الأنا الذي ذاب في
أنا أمه ، وسيزداد ذوبانا في شخصيات الآخرين ..
سيبحث عنهم بطبيعة الحال في الكتب ، والجرائد ، والمجلات ، والقنوات
التلفيزيونية ، ومواقع الأنترنيت.. وفي نظره أن كل كلمة يقولونها هي صحيحة لأبعد الحدود..
ولا يستطيع أن يعرف أن مجموع الواحد مع الواحد هو إثنين إلا إذا
سألهم عن صحة ذلك.. وهو ما يسمى بمرض الإرتياب..
تتعرض هذه الفئة إلى حالة فقدان الثقة بالنفس ، والتعرض لمرض
الإرتياب.. إلى جانب إنعدام جوهرهم الميتافيزيقي المتمثل في فقدان الأنا ، وزوال تلك
الفطرة الربانية فيهم..
سيتغلب الجانب السمعي على الجانب الحسي لديه.. أي تتغلب أذناه على
عينيه..
وبالتالي تتغلب الرؤيا الخارجية عن رؤيته الداخلية ، ومن هنا تبدأ
المعاناة في شكلها الحقيقي دون أن ينتبه إليها ، بطبيعة الحال لأن إنتباهه لا يمكن
إلا بواسطة الأنا الذي إنعدم بضربات الجلاد القادمة من خارج نفسه..
ومن الأعراض الشائعة لهذه الحالة هو شعور الإنسان بأن زمام أمره قد
أفلت من يده.. لا يستطيع أن يقوم بشيء.. ولا أن يعمل شيئا.. خائر القوة ، فاقد
الإحساس بطعم الحياة ذلك لأنه يشعر بشعور الآخرين ويأكل بفمهم .. وسيعلل ذلك
باسباب أخرى ، كالشعور بالكبر مثلا.. أو السحر.. أو المس الجني .. أو الحسد ..
وما عليه أن يعلل ذلك إلا باعترافه بأن أناه قد سيطرت عليه أنوات
أخرى. وأصبح معدوما ومشلولا لا يستطيع العمل إلا بالغش للمعلومات الخاطئة في كثير
من الأحيان..
كما يتعرض هؤلاء إلى حالة التقديس..
فمن تقديس الأبوين ، كمنزهين عن الأخطاء.. إلى تقديس المعلمين
والأساتذة .. إلى تقديس بعض الشخصيات من المجتمع.. إلى تقديس أشباه العلماء.. إلى
تقديس الأئمة والمفسرين.. إلى الكارثة..
وتتمثل الكارثة في ظهور أعراض بسيكوسوماتية يصعب تشخيصها..
وخلاصة القول هو أن المثقفين يتواجدون على قسمين :
قسم يحفظ المعلومات عن الآخرين خارج إطار نفسه..
وقسم يبحث عن هذه المعلومات داخل إطار نفسه..
قسم يعتمد على التقاط المعلومات إعتمادا على العقل الذي يقف فاشلا في
تفسير معظم الأحداث.. ذلك لأنه إستبدل عينيه بأذنيه..
وقسم يعتمد على إلتقاط هذه المعلومات إعتمادا على إحساسه الداخلي
وبصيرته..
وشتان فرق بين العقل والبصيرة..
قسم يطل من الشباك باحثا عن أصحاب المعلومات.. كما لو كان في شباك
سجن محكم..
وقسم يطل من وراء بصيرته بالموضوع..
قسم يستفتي الناس في كل شيء..
وقسم يستفتي نفسه ، إستجابة لحديث نبيه (ص) :
" إستفتوا أنفسكم "
ذلك لأن الحقيقة هي ذلك الجوهر الذي بعث الله به في قلوب الناس كلهم
منذ انحدارهم للحياة.. وما ياتي العالم أو المعلم إلا ليذكرك بها فقط ، لا أن
يعلمك إياها.. لأنك تعرفها معرفة اليقين ، وأنت تتجاهلها فقط نتيجة في أنك أعدمت
الأنا باستماعك إلى أنا الغير.. ولذلك يقول سبحانه وتعالى :
" وعلم آدم الأسماء كلها "
فأنت تعلم حقائق كل الأشياء في هذه الحياة ، وهي مختبئة في عقلك ،
لكنها محجوبة عنك ، بسبب تغطيتها بمعلومات الآخرين.. ولو نزعت الغطاء لعرفت
الحقيقة [2].. فلا داعي في أن تتعلمها
مغشوشة من الآخرين.. وخذها من داخل نفسك الطاهرة بالطهارة التي خلقك الله عليها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق