اعلان

الثلاثاء، 30 يونيو 2015

الجني والعقل الباطني



                                    

لقد ظهر على ساحة المعرفة السحرية ، خصوصا في الآونة الأخيرة ، مع بداية الألفينات .. أناس يدعون أنهم يكلمون الجن بواسطة الرقيا .. الرقيا الشرعية على حد قولهم .. حيث
 يخبرهم هذا الجن عن أمور غيبية ، غالبا ما تتعلق بمعلومات حول الساحر الذي قام بمبادرة سحرية للشخص المريض ..
عندما يصاب أحدهم  بأعراض مرضية ذات مشابهات ، يختلف أهله في مصدر هذه الأعراض ، خصوصا حينما تظهر غالبا وقت المساء ، وهم يعتقدون أنه وقت إنتشار الجني ونشاطه ، وحينما يبدأ أهل المجوس في عبادتهم .. فيظن أهله أن هذا ضرب من الشيطان ومس من الجني..
هذه الأفكار تدعمها البئة المتخلفة التي يعيشها هؤلاء ، إلى جانب الفئة التي تعمل على إشهار هذا النوع من المعرفة في الأوساط العربية .. خصوصا في الدول التي خضعت إلى الإستعمار بصفة مطولة..
وهؤلاء لا يعرفون الطبيب إلا في حالات إستثنائية جدا .. بل يعرفون من يسمى عندهم بالراقي..
هذا "الراقي" الذي حل في الآونة الأخيرة محل "الطالب" في السنوات المنصرمة.. بحجة أن كتابة القرآن على أوراق هو تميمة والعياذ بالله..
يقوم الراقي بقراءة القرآن على المريض المصاب بأحد الأعراض التي تبعث على الإعتقاد في أنها أعراض سحر أو مس جني... خصوصا وأنه يتطرق أثناء قراءته إلى الآيات التي ذكر فيها خلق الجن.. فيتوهم المستمع إلى أن هذه الآيات تتكلم عن مس الجن للبشر..
هذه الآيات تتكلم عن خلق الجن ، ولم تتكلم عن المس الجني بتاتا.. لكن الترابط الذي يحصل في ذهن المريض وأهله بين وجود الجن وبين مسه لبني البشر هو الكارثة..
فوجود الجني شيء.. ومسه لبني البشر شيء أخر..
هذه الوهميات الخفية جدا هي تلك التي يجب الإنتباه إليها بحذر كبير..
وعندما يبدأ الراقي في قراءته للقرآن على رأس المريض ، فإنه يحدث ترابط فكري في ذهن هذا المريض ، خصوصا وهو يعتقد بأن هذا كلام الله ، فيسقط في أحابيل الوهم ، ويصاب وعيه بحالة الكبت التي تسمح لعقله الباطني بالإنطلاق في الكلام..
المريض قبل سقوطه في حالة الغيبوبة ، يشك في أن فلان بالضبط هو الذي سحره ، مما هيأه للإصابة بالمس.. لكنه لا يستطيع البوح بذلك بسبب شدة الكبت[1]..
هذا الكبت يقوم له الراقي بالمرصاد حيث يفك عقاله ويتركه يتكلم بحريته..
وهنا يصعب على المريض الكلام بشخصيته المستقلة ، فيفتعل شخصية أخرى مثل الجني المزعوم لتتكلم عوضا عنه ..
يقوم هذا الجن الوهمي ، بالكلام مع الراقي على لسان المريض ، كما لوكان ليس لديه لسان مستقل عن لسان هذا المريض ، بعد أسئلة معينة يقوم بها هذا الراقي.. فيصف لهم إنسانا بريئا مما يصفون.. وتظهر عدوانية أهل المريض لهذا الشخص الموصوف وقد تنتهي لما لا يحمد عقباه...
المريض بطبيعة الحال لديه أفكار مكبوتة في وعيه ، وتصورات خاطئة عن أسباب مرضه ، وتشخيص وهمي.. ولم يستطع التصريح بها بسبب هذا الكبت..
وعندما يقوم الراقي بقراءة القرآن ، فإنه يتطرق إلى الآيات المتكلمة عن السحر ، مما يسمح بكبت وعي المريض.. حيث تنطلق أفكاره من عقالها ، ويبدأ عقله الباطني في الكلام عما كان مكبوتا فيه.. وعند ذلك ينخدع الراقي ، وأهل المريض في أن الجني هو الذي يتكلم وتحدث المصيبة الكبرى..
وليس هذا تعمدا من الراقي..بل أن إجتهاده جره إلى هذا المعتقد..
والسول (ص) يقول :
" من إجتهد وأصلح فله أجران ، ومن إجتهد وأخطأ فله أجر واحد "
هذا الراقي إجتهد وأخطأ فلن يحرم من الأجر.. لكن عليه أن يتوب عن خطئه وفقا لحديث حبيبنا(ص) :
" كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون "
عليه أن يعترف بخطئه في تشخيصه للمرض.. هذا أولا..ثم عليه أن يعترف بخطئه الأكبر والعياذ بالله حينما إعتبر كتابة القرآن تميمة..
فالذي يتكلم مع الرقاة ليس بجن على الإطلاق ، وما هو إلا صدى العقل الباطني للمريض..
ولو فحصنا ذلك المريض فحصا نفسيا أو طبيا ، لوجدنا أنه يعاني من أسباب أخرى لا علاقة لها بالجن أو بالسحر إطلاقا..
كما لو قمنا بتحريات لوجدنا أن هذا الشخص المتهوم لا يعرف شيئا عن السحر إطلاقا ، وليس له سوابق عدوانية أو حتى معرفة بالشخص المريض .. بل أن ذنبه الوحيد هو قراءته للقرآن الذي يعتبرون كتابته سحرا وتمائم والعياذ بالله .. فالقرآن وحامل هذا القرآن في نظرهم شيء واحد وهو السحر ..
إن القرآن هو القرآن ، سواء تلوته أم كتبته .. وكيف يكون موقف هؤلاء الرقاة أمام الآية :
" ومن أظلم ممن إفترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون "
ومن جهة أخرى فإن هذا الذي يدعي مكالمة الجن ، ما هو إلا شخص يتكلم مع العقل الباطني للمريض لا أكثر ولا أقل[2]..
والدليل على ذلك هو أن هذا المريض حينما يوجه إليه هذا الراقي سؤالا فإنه لا يجيب إلا عن أشياء موجودة في وعيه بمعرفة مسبقة.. ولا يتكلم عن أشياء غير موجودة في هذا الوعي ، فهو يتكلم بحسب ما يوجد في وعيه من مكبوتات .. فإذا كان يشك في أن فلان هو الذي سحره فإنه أثناء الرقيا ، ينطق عقله الباطني بمحتوى ما هو موجود في وعيه[3] .
وإن جئت لمحاورة هذا المعالج.. فإنه يستدل بأحاديث وآيات لا علاقة لها بالموضوع على الإطلاق..
سيقول لك مثلا ، الآية :
" خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار "
وهذه الآية تتكلم عن خلق الجن.. ولم تتكلم عن مسه لبني البشر..
وهناك الكثير من الآيات بهذا الشكل ، ولم تتطرق بتاتا إلى مسألة المس..
أو يقول مثلا :
" إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم "
هذه الآية تدل على إمكانية رؤية الجن لنا ، وعدم إمكاننا على رؤيتهم..
ورؤيتهم لنا لا يعني المس..
أو يتطرق إلى الحديث :
" إن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق "
هذا الشيطان يجري في دم ابن آدم من أجل الوسوسة التي جاءت واضحة في سورة الناس والتي لا تحتاج إلى تفسير أو مفسر..
إنما أقول لهؤلاء الرقاة ، مرحبا بكم ، لو أنكم إستعملتم الرقيا من أجل علاج الأمراض النفسية والجسدية.. بدلا من إستعمالها في أمور وهمية كالسحر والمس الجني.. فما تعتقدونه عن المس الجني ما هو إلا صدى العقل الباطني للمريض.



[1] - الكبت وسيلة من الوسائل التي يسلكها المريض في مواجهته لشيء ما في نفسه
[2] -التنويم المغناطيسي و وظيفة اللاشعور-
[3] - عن دراسات تطبيقية وتجارب شخصية طيلة أربعين سنة ، توحي بتدخل العقل الباطني للمريض وتستثني لعبة الجن من الموضوع

ليست هناك تعليقات: