الدرس 18 في العلوم الروحانية وعلم الكلمة
قلنا في المحاضرات الماضية بان الكلمة والحرف والحركة في القرآن يكاد كل منهم أن يكون قرآنا كاملا ، خاصة وأن هذا القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي جاء بلغة الكلمة ولغة الحرف . كما قلنا بأن الله سبحانه وتعالى حافظ على القرآن من التحريف وذلك بواسطة الطرح الدقيق للكلمات وفي مكانها المناسب بالضبط بحيث لا يمكن تعويضها بكلمة أخرى على الإطلاق وبحيث إذا حاول أحدهم تزييف الآية فإن الكلمة الموجودة بهذه الآية تمنعه من ذلك ، وإذا إنحرف أحدهم عن التفسير فإن الكلمة تفضحه أيضا وتثنيه عن عزمه الخاطئ . وتتناول الكلمة بدقتها معنى الآية بكاملها إذا تمكن القارئ من تحليلها الجيد والتعامل معها بمنطق سليم .
وفي هذه المحاضرة سوف نتطرق معكم بكل إختصار إلى قصة سيدنا موسى عليه السلام مع السامري ، حيث أنه بعد حادثة شق البحر ، وبعد أن نجا موسى بقومه ، ذهب هذا النبي الكريم لمكالمة ربه على جبل الطور تاركا وراءه أخاه هارون عليه السلام كمستخلف ، واغتنم السامري غياب موسى وأخرج لهم عجلا جسدا له خوار مدعيا بأنه إله وقام قوم موسى بعبادة هذا العجل وفتنوا به دون عبادة الواحد الأحد .
وكان الله قد أخبر نبيه بما حدث ، فرجع موسى إلى قومه غضبان آسفا يحمل الألواح الحاملة للآيات في يده فرمى بها بقوة على الأرض من شدة الغضب ، وأخذ بأخيه يجره من لحيته ورأسه حتى أوشك على قتله ، ثم إلتفت إلى قومه طالبا منهم بأن يقتلوا أنفسهم ليغفر الله ذنوبهم بسبب عبادتهم لذلك العجل وكفرهم ، مما جعلهم ينقسمون إلى فئتين ، فئة قليلة مؤمنة بما جاء به موسى ، وفئة كثيرة مؤمنة بما جاء به السامري والتقى الجمعان في معركة حاسمة إنتهت بانتصار المؤمنين وقتل الآخرين .
المشاهدون الحاضرون من قوم موسى ، لاحظوا كيف أن موسى رمى بالألواح على الأرض بقوة وفي غضب شديد وهي حاملة لكلام الله سبحانه وتعالى وهو تصرف يرمي إلى الكفر لآنك لو تخيلت أنك تحمل المصحف الشريف ورميته على الأرض في غضب تدرك عندئذ ما حدث غصبا لسيدنا موسى عليه السلام . ثم لاحظوا كيف أنه أقبل على أخيه يجره من لحيته ورأسه حتى اوشك على قتله ، فادركوا عندئذ بأن هذا يوم عسير ، ولاحظوا أيضا بأن هناك الآلاف من قوم موسى قد قتلت ، مما جعلهم يتساءلون عما يعمله موسى مع السامري ، وكيف يكون عقابه ، لكن موسى أقبل إلى السامري بكل هدوء وبأعصاب باردة ، وكأن شيئ لم يحدث وعفا عنه دون عقاب ، مما جعل العلماء والمفسرين يتساءلون عن الحجة التي جعلت الحكم القضائي يصدر بالعفو في حق السامري ، كما يتساءلون عن الكيفية التي قام بها السامري من أجل إخراج هذا العجل الذي سبب الفتنة .
وقام المفسرون في تراثهم القديم بأن السامري كان حاضرا مع موسى يوم حادثة شق البحر ، ورأى سيدنا جبرائيل يركب فرسا ، وكان هذا الفرس يترك بقعا خضراء أثناء مشيته على الأرض ، فأخذ السامري أثر ذلك الفرس واخرج به العجل الذي فتن به قوم موسى وهارون عليهما السلام ، وبقي هذا التفسير ساري المفعول منذ أربعة عشر قرنا إلى يومنا هذا .
ونحن كطلاب للعلم لنا كل الحق في أن نتساءل لا كمفسرين بل كباحثين في العلم وليس في التشريع الذي جاء به الذكر الحكيم ، ونتساءل قبل كل شيء عن إمكانية السامري في رؤية جبرائيل دون الآخرين مع العلم أن هذا الملك الشريف لا يراه سوى الأنبياء والمرسلين فما هي القدرة التي مكنت السامري من ذلك مع أنها أمر مستحيل للغاية ؟ ثم كيف أن الملك جبرائيل الذي يقطع السماوات السبع التي مسافتها المليارات الغير منتهية من السنوات الضوئية يقطعها في أقل من الثانية أي في اللازمن ، يحتاج إلى فرس ليركبه ؟ ثم ان السامري قال لموسى بأنه قبض قبضة من اثر الرسول وليس من اثر الفرس ، فالفرس ليس هو الرسول ، بل الرسول إما أن يكون جبرائيل أو يكون موسى عليه السلام نفسه ولا غير .
وكما قلنا سابقا فإن الكلمة في القرآن هي التي تصحح مجرى التفسير وتجيبنا عن اللغز المطروح ، ومن أجل ذلك نرجع إلى الآية الكريمة التي طرحت القصة حيث يقول سبحانه وتعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي . طه/ 96 وما علينا إلا أن نطرح السؤال الحاسم بالشكل التالي : هل قال السامري بصرت ام قال أبصرت ؟ هناك فرق كبير جدا بين الكلمتين حيث أن كلمة أبصرت تدل على الرؤيا بالعين وعلاقتها بالإدراك أو العقل أما كلمة بصرت فتدل على الرؤيا بالبصيرة وليس العقل ، وقد وضحنا في كثير من المحاضرات الفرق بين العقل كوسيلة مكتسبة من صنع الإنسان ، وبين البصيرة كوسيلة فطرية من صنع الله في هذا الإنسان .
فإذا قال السامري أبصرت فإن تفسيرهم يعتبر صحيح بشكل نسبي حيث يصبح الأمر من جراء هذا التفسير بأن الفرس هو الرسول وليس جبرائيل ، أما إذا قال بصرت فإن الوضع يختلف ، لكنه من الواضح في الآية بأنه قال بصرت ولم يقل أبصرت ، مما يفتح مجال الإستفهام أيضا حول كلمة قبضة وكلمة أثر. ولهذا قلنا بأن الكلمة في حد ذاتها تكاد تكون قرآنا كاملا بحيث تعطي المعنى الحقيقي للفكرة المطروحة عبر النص أو عبر الآية كما فعلت عندئذ كلمة بصرت من حيث أن السامري رأى ببصيرته وليس بعينيه .
إننا نعلم بطبيعة الحال بأن سيدنا موسى عليه السلام لما نجا بقومه من كيد فرعون وجيوشه ، وبطبيعته كنبي مرسل فهو مكلف بالتبليغ لرسالته عن طريق تقديم دروسا يوميا ومحاضرات متتالية ومتعاقبة يشرح فيها دعوته إلى الصراط المستقيم ووعظا وإرشادا لمدة طويلة من الزمن ، وتطرق معهم إلى تقديم الفرق بين السحر والكرامة والمعجزة من حيث أن فئته كانت مثقفة ثقافة سحرية ويصعب عليه كثيرا إقناعهم بالمنهج الإلهي الجديد كما هو الحال في وقتنا الحالي حيث أنه وبالرغم من ثلاثة وستين آية تتكلم عن وهمية السحر وتأثيره في الإدراك تأثيرا تخيليا إلا أن معظمهم لا يزال يتخبط في مفاهيم فرعونية ويعتقد بأن السحر هو عبارة عن حروف تستخرج من القرآن كما لو كان القرآن نفسه مصدرا للسحر والعياذ بالله ، ولهم قنوات متخصصة لهذا الشأن على مستوى اليوتيب بملايين المشاركين .
الدروس التي كان يقدمها موسى عليه السلام من وحي إلاهي تناولت الجانب التشريعي ، كما تناولت الجانب المعرفي حول ماهية السحر وماهية المعجزة وماهية الكرامة وكان إستعابها يشكل صعوبة كبيرة من طرف قومه نظرا لوراثتهم للسلوك المعرفي السحري لمدة طويلة من الزمن مما جعلهم لا يستوعبون هذه الدروس بعقولهم لأنها صعبة على تحملها بواسطة العقل ، بل إستوعبوها ببصيرتهم وهو ما أعطى بصيرة قوية للسامري كموضوع للفتنة .
وقد ركز سيدنا موسى عليه السلام على الطبيعة
النبوية في الإنسان بحيث علمهم جيدا إلغاء السمعيات جانبا والتصديق بما هو ملموس
وظاهر أمام العيان .
المعاينة البصرية المستخلفة
للسمعيات حذفت المنهج السمعي من القاموس النبوي لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام
وطالب بالإمكانيات الملموسة التي لا تظهر إلا من وراء العقل الباحث عن معطيات
المنطق حيث واجه السحرة بقوله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين النمل/64 وكلمة هاتوا هي كناية عن الملامسة العقلية التي تتراءى في مجموع الواحد مع
الواحد لا يعطي سوى إثنين بالضرورة القصوى .
الادلة السمعية تضع اسلحتها امام قوة المنطق الذي لا يسمح بالمفاهيم العشوائية ان تقتحم ميدان المعرفة ، ولذلك كان السامري قد تلقى بصيرة عظيمة من جراء الدروس العظيمة التي كان يلقيها موسى عليه السلام ، كما تلقى الروح الواقعية بحيث لا يؤمن بشيء مما قاله موسى حتى يرى ذلك بعينيه على أرضية الواقع وهو ما جعله يضطر إلى التجربة بنفسه وإخراج العجل موضوع الفتنة ، ولذلك فقد كانت الحجة على موسى لأنه هو الذي علمه ألا يؤمن بشيء إلا تحت الملامسة العقلية والمشاهدة العيانية ، فأصدر الحكم القضائي في حقه بالعفو ، وكأن السامري كان قد وضع فرضيتين ، أولهما : هل صحيح بأن السحر هو عبارة عن عملية تخيلات تجعل الإنسان يدرك الواقع إدراكا غير سليم ؟ وثانيهما : هل يمكن أن يؤدي السحر إلى الفتنة والكفر ؟
عندما يكون الطالب في المتابعة والإستماع إلى أستاذه وهو يلقي محاضرة ما ، فإنه وبطبيعة الحال لا يمكنه أن يستوعب موضوع كل المحاضرة وإلا فمعنى ذلك أنه يتحول من طالب إلى أستاذ ، بل يأخذ فقط جزء من فهمه لهذه المحاضرة أي قبضة من العلم الذي كان يلقيه ذلك الأستاذ ، وهو ما حصل للسامري حيث قبض قبضة فقط من الدروس التي كان يلقيها موسى وهو ما جعله يقول : قبضت قبضة من أثر الرسول ، أي جزء بسيطا من الشرح الذي كان يقوم به موسى .
وعندما نقرأ عن عالم أو أديب أو كاتب ما ، فإننا نتساءل عن آثاره التي خلفها ، فنقول بأنه ألف كتاب كذا ، وكتب في كذا ، وترك ديوانا ضخما عنوانه كذا وكذا . فأثر الأديب أو المؤلف أو الكاتب هو ما تركه من مؤلفات ، وأثر موسى هو الدروس العظيمة التي كان يلقيها ، ولذلك قال السامري : قبضت قبضة من أثر الرسول أي تحصلت على جزء بسيط من الدروس التي كان يلقيها موسى ، ثم يقول : وكذلك سولت لي نفسي أي دفعتني نفسي إلى القيام بالتجربة واقتحام ميدان المعرفة العلمية .
أما الرسول فقد أصبح من الواضح بأنه ليس الفرس الذي يزعمون بأن جبرائيل كان يركبه بل هو سيدنا موسى عليه السلام .
رابح ميساوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق