تدبر القرآن بعض المسائل الغامضة من التاريخ لا يجيبنا عنها إلا تدبر القرآن الكريم ، والتدبر يقوم على أساس التحليل الجيد للكلمات والنظر إليها بمنطق سليم . هذا المنطق نادى به سبحانه وتعالى في ما يزيد عن مائة وسبعين آية ، ومنها قوله تعالى كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ..سورة ص/29.
أثر الكلمة في المعنى تكاد الكلمة أن تكون قرآنا كاملا وكذلك الحرف ، وكذلك الحركة الموجودة على هذا الحرف وتعتبر الحارس العظيم ضد محاولات التحريف أو الإنحراف عن التفسير الصحيح ، كما تقهر المقولة الخاطئة التي يزكيها بعضهم والقاضية بأن تفسير القرآن الكريم يخضع للمزاج البشري، ذلك لأن القرآن عبارة عن معادلة الواحد + الواحد لا يعطي سوى إثنين بالضرورة ولا توجد هذه المعادلة إلا في هذا القرآن.
كيف حافظ الله على القرآن من التحريف دقة الطرح الموجودة في الكلمات الدقيقة هي أحد التقنيات التي إستعملها سبحانه وتعالى ضد تحريف الكلمات أو الآيات وخاصة ضد الإنحراف عن التفسير الصحيح كما سيظهر ذلك جليا من خلال تقديم بعض الأمثلة النموذجية التي تبرهن على حتمية الإعتراف بأن الكلمة هي قرآن كامل.ومنها قصة سيدنا سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ.
قصة سيدنا سليمان مع ملكة سبأ لقد قام سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام بعقد إجتماع ظرفي وتفقد الحاضرين من الإنس والجن والطيرفوجد الهدهد غائبا والذي كان قد عينه في المخابرات العسكرية ، وتوعده بتعذيبه أو ذبحه إذا لم يأت بشهادة تبرر غيابه . وجاء الهدهد يعرض خبر إمرأة تتولى شؤون قوم بعرشها العظيم وهي تسجد للشمس من دون الله . وكعادة جميع الأنبياء بأنهم لا يصدقون إلا بالملموس ويرفضون السمعيات رفضا قاطعا . ومن أجل إختبار صحة قول الهدهد من كذبه كتب لتلك الملكة رسالة يدعوها فيها إلى الصراط المستقيم وأرسلها مع نفس الهدهد ليلقيها إليها من بعيد . ولما وصلت الرسالة إلى تلك الملكة أرادت هي الأخرى أستكشاف حقيقة هذا الرجل عن طريق إرسال هدية من مال إليه ، فإذا كان يدعي النبوة لاغراض دنيوية خاصة فإنه يقبلها ، أما إذا كان نبيا حقا فإنه يرفضها . أما سيدنا سليمان عليه السلام فإنه لما وصلته الهدية رفضها وقال للملإ من جيشه على جناح السرعة كما في قوله عز وجل : قال ياأيها الملأ أيكم ياتيني بعرشها قبل أن ياتوني مسلمين . النمل/38 أي أنه طالب بعملية أختطاف عرش هذه الملكة قبل أن تصل إليه ، وعند ذلك قام عفريت من الجن يعرض قوته الحربية كما قال الله على لسانه : قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين . النمل / 39 هذا العفريت وهو أعلى درجة من درجات الجن قال للملك سليمان بأنه في إستطاعته أن يأتي بعرشها قبل أن ينهي هذا النبي جلسته أو قبل أن يقوم من على كرسيه ، ولم يقبل سليمان هذه المبادرة باعتبارها بطيئة في نظره ولا تناسب الظرف الحربي المطلوب ولذلك أقصاه من الساحة الحربية . وعند ذلك قام أحدهم المالك لعلم الكتاب يقترح إختطافها في أقل من لمح البصر كما جاء ذلك في قوله عز وجل : قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . النمل/40 وذلك بسرعة تتجاوز سرعة الضوء أي في إطار اللازمن ، ولم ينتظر هذا المبادر موافقة النبي سليمان بل وضع عرشها أمامه قبل لمح البصر. لغة ما وراء الكلام تنبئنا بأنه سبحانه وتعالى أراد أن يخبرنا عن طريق وضع موازنة بين قوة الجن وقوة الإنسان فكانت قوة الإنسان هي الأعلى ، وموازنة بين السحر والعلم فكانت الغلبة للعلم ، ولذلك لم يتكلم الله عن السحر إلا في ثلاثة وستين آية بينما تكلم عن العلم في ما يزيد عن مائة وسبعين آية من الذكر الحكيم .
إختلاف العلماء حول ماهية المالك لعلم الكتاب وظهر الإختلاف بين العلماء والمؤرخين في معرفة من هو هذا الشخص الذي يملك علم الكتاب والذي قام بهذه المبادرة العظيمة الفريدة من نوعها عبر التاريخ ، وظهر في ذلك ثلاثة إتجاهات . الإتجاه الأول يرى أن هذا الشخص هو الملك سليمان بن داود نفسه لأنه حسب زعمهم هو الوحيد الذي آتاه الله علم الكتاب آنذاك ، لكن الله قال على لسان نبيه سليمان : وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء أن هذا لهو الفضل المبين . النمل/16 فلم يعلمه إلا منطق الطير لا غير. ويرى الإتجاه الثاني بأنه وزير الملك سليمان وهو من الجن ، لكن هذا الوير لم يعطه الله علما بدليل عدم وجود آية تنص على ذلك ، ويقول سبحانه : ما فرطنا في الكتاب من شيئ . الأنعام/38 فهل فرط سبحانه وتعالى في أن يخبرنا عن علم أعطاه لهذا الوير ؟ ألم يخبرنا سبحانه وتعالى عن فشل الجن في مهمته وتعرضه للإقصاء من طرف سليمان ؟ ويرى الإتجاه الثالث بأنه سيدنا الخضر عليه السلام إعتمادا على قوله : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما . الكهف/ 65
وهنا تتدخل قوة التدبرفي القرآن الكريم من أجل الفصل النهائي في استفهامية الموضوع والقضاء على هذا الاختلاف بواسطة كلمة مفتاحية مقدسة واضحة تفصل في هذا النزاع ونصل غليها عن طريق التحليل الجيد لها ، واستعمال المنطق السليم في التفكير.
يخبرنا سبحانه وتعالى بانه اعطى العلم لبغض الانبياء ومنهم سيدنا يوسف عليه السلام الذي علمه تاويل الاحاديث كما في قوله عز وجل : ربي قد آتيتني م الملك وعلمتني من تاويل الاحاديث يوسف/101 .
ثم سيدنا سليمان الذي فرعا من العلم وهو منطق الطير ، وأعطى لسيدنا محمد علم القرآن الكريم . وعلم سيدنا الخضر علما كاملا . لكن الذي يفصل في النزاع بين الاتجاهات الثلاثة والاختلاف في وجهة نظرهم وتنظيرهم هو كلمة واحدة في القرآن الكريم جاءت تلوح كوميض البرق الخاطف في اعالي السماء وهي تلك التي توجد في قوله تعالى : قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل ان يرتد غليك طرفك النمل/40 . كلمة عنده من حيث إعرابها تعرب مفعول فيه ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره ، وما دامت هذه الكلمة هي ظرف مكان فإنها تدل على أن الذي قام بهذا الفعل يشغل حيزا من المكان ، والإنسان هو الكائن الوحيد إلى جانب الحيوان الذي يتميز بالكانية والجن لا يشغل هذا الحيز. وهو ما يعني بان الذي قام بهذا الفعل هو من الانس وليس من الجن .
لقد كانت ثلاثة اتجاهات متنازعة حول معرفة من هو الشخص الذي قام بهذا الحدث العظيم والفريد في التاريخ وقامت كلمة عنده فحذفت امكانية الجن في ذلك حذفا شرعيا ومنطقيا وبقي التنافس بين اتجاهين عظيمين وهما الاتجاه الذي يؤيد الملك سليمان والاتجاه الذي يؤيد سيدنا الخضر ، لكن محدودية العلم لدى النبي سليمان ترشح حتما سيدنا الخضر عليه السلام بصفته المالك لعلم كامل غير محدود.
وهكذا فقد وضحنا قوة الكلمة واثرها في المعنى وحل الخلافات المعرفية بين العلماء ومنعها القاطع لتحريف المعنى وقيامها بالدقة العظيمة في التدبر والتفسير. رابح ميساوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق