اعلان

الأربعاء، 8 أبريل 2015

أولياء الله الصالحين في القرآن





يقول سبحانه عز وجل :
" ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنزن "
فقد أكد الله سبحانه وتعالى الخبر بمؤكدين إثنين[1] :
 أولهما : " ألا "
وثانيهما " إن "
دلالة على أنه سوف يأتي اليوم الذي يتعرض فيه أولياء الله إلى الإنتقادات الجارحة عن طريق الفهم الخاطئ لهم .. فأكد الخبر بالمؤكدين منعا لهذا الإنحراف عن المفهوم..
فالمؤكد الأول " ألا "
هو بمثابة دائرة محيطة بدائرة أخرى متمثلة في المؤكد الثاني:
" إن "
فإن إستطاع بعضهم تحطيم الدائرة الأولى ،  فإن تحطيم الدائرة الثانية هو في المقام الأعلى من الإستحالة ، كشكل واضح من الإعجاز في القرآن الكريم.                
لقد كان نبي الله سليمان بن داود عليه السلام ، قد أيده الله بمعجزات عظيمة لم يؤيد بها أنبياءه الآخرين طبقا للآية:
" قال رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب "
وفي آية أخرى :
"... فسخرنا له الريخ الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، والشياطين كل بناء وغواص "
فعفاريت الجن تخدمه في كل ما يريد من أمور الدنيا .. والريح تحمله في سرعة البرق حيثما أراد .. والطير يستخدمها في المخابرات .. وحتى أنه إستطاع أن يأتي بعرش بلقيس في ظرف لا يتجاوز لمح البصر ..
وبالرغم من كل هذه المعجزات ، يقوم سيدنا سليمان يدعو ربه فيقول:
".. وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل عملا صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين"[2]
أي أن سليمان أدرك حاجته في الإلتحاق بأولياء الله الصالحين ، وراح يطلب ربه من أجل ذلك ..
أما سيدنا يوسف عليه السلام ، وبالرغم من المعجزات التي أيده الله بها ، حيث أنه كان آية من آيات الله في جمال الشكل واللون ، حتى أن إمرأة عزيز مصر شغفت به ، كما جاء ذلك واضحا في الآية :
" وقال نسوة في المدينة ، إمرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ‘ قد شغفها حبا.. "
وحتى أن بنات ونساء الحي أفقدن صوابهن عندما رأينه يدخل عليهن ، كما جاء في الآية:
" فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشر ، إن هذا إلا ملك كريم"
ثم أن الله علمه علما لم يعلّم به غيره من البشر ، وهو علم تفسير الأحلام ..
فالعقل الباطني يستخدم لغة غير اللغة التي يستخدمها العقل الواعي ، وهذه اللغة عبارة عن نسغ من الرموز الكاشفة عن معاني وأمور غيبية ، مازال العالم كله لم يصل إليها.
وكل ما وصل إليه العلماء هو ذلك الجانب من التفسير المرضي ، حيث يقوم العقل الباطني بإعطاء إشارات ورموز تعبر عن أسباب متاعبه ومكبوتاته وصدماته إبان الطفولة ، التي لا تزال تمد بعلاقتها إلى الوقت الحاضر..
أما التفسير الغيبي الذي أدركه سيدنا يوسف ، فقد فاق التفسير المرضي بآلاف الأضعاف ، وأصبح بمقدوره أن يتنبأ عما يحدث للإنسان أو ما يحدث في الكون مستقبلا ، عاجلا أم آجلا.. 
ولا زالت مجهولية هذه العلاقة الرابطة بين العقل الباطني والمفاهيم الغيبية تمد بخيوطها إلى الوقت الحالي..
وبالرغم من هذه المعجزات العظيمة لسيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام ، إلا أنه أدرك لزومية الإلتحاق بأولياء الله الصالحين ، فيدعو ربه قائلا:
" رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض ، أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين "
ويقوم سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعاء ربه  حيث تقول الآية :
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ..[3]
وفي سيدنا موسى عليه السلام ، آيات لأولي الألباب ، حيث أنه كان من المرسلين ، وكان يكلم الله جهرة وبدون أي وسيط بينهما من الملائكة ، وتلقى واحدا من الكتب الأربعة وهو كتاب التوراة ..
ويوم مواجهته لفرعون ، أخرج يده بيضاء للناظرين كبرهان على نبوته..
واستطاع أن يلقي بعصاه لتتلقف ما يأفكه السحرة ..
وأن يأتيهم بتعريف دقيق للسحر من الواقع الملموس ويكشف عن مجهوليته ووهميته ..
كما إستطاع بقوة الله أن يشق طريقا في البحر لنجاة قومه وإغراق فرعون وآله ..
 و أن يفجر ينابيع الارض ماء ..
وأن يأتيهم بطعام من مختلف الالوان والأذواق في ارض قاحلة..
و أن يكشف عن الدجل الذي قام به السامري..
و...
إلا أنه لما إلتقى مع أحد أولياء الله الصالحين ، وهو سيدنا الخظر عليه السلام ، وقف عاجزا أمام كراماته ، وقدراته العلمية ، ومعرفته لأسرار الكون والحياة..
إن موسى كونه نبي مرسل ، يتلقى كتابا سماويا عظيما وهو كتاب التوراة.. وأيده الله معجزات فائقة تمثلت في ما تقوم به عصاه من أعمال فاقت القدرة البشرية على الإستعاب ..
ويكلفه بهداية فرعون إلى الصراط المستقيم ، مع أن فرعون كان أكبر طاغية في العالم وفي ذلك العصر.. كما يكلفه بشرح آية علمية في المقام الأعلى من التعقيد والصعوبة ، من حيث أن العقل البشري قاصر على فهم ما سيقوله موسى في تعريفه للسحر.. فإن قال موسى بأن السحر هو ما يقوم به الساحر من خوارق الطبيعة ، نتيجة لاستعانته بالجن ، فإن ذلك سيكون أقرب إلى الإستعاب والفهم..
لكن إذا قال موسى بان السحر هو ما يقوم به الساحر من خوارق الطبيعة نتيجة للإستعانة بقوة التخيل ، فإن ذلك أبعد بكثير من الإستيعاب والفهم ، خصوصا بين قوم يتميزون بثقافة سحرية ولا يفسرون الأحداث وحوادث الطبيعة إلا تفسيرا سحريا.. ولا علاقة لهم بالمفاهيم العلمية أبدا..
تصور أنك طبيب نفساني.. إستقبلت مريضا يعاني مما لا شك فيه من إضطرابات هستيرية.. واستطعت أن تتأكد من ذلك عن طريق الفحص والإختبارات النفسية.. بينما هذا المريض ثقافته هي ثقافة سحرية ، ويعتقد أنه مصاب بسحر أو مس جني أو الحسد.. إنه يؤمن بهذه الفكرة منذ طفولته..
فما العمل عندئذ ؟
سيكون من الصعب جدا ، بل من المستحيل إقناعه في أنه مصاب بحالة نفسية تميزت بظهور أعراض هستيرية سببها عقدة نفسية سقطت في اللاشعور إبان الطفولة.. وما إلى ذلك من مفاهيم اللاشعوروالعقل الباطني.. والجهاز النفسي و..
سيذهب هذا المريض ضحية لمعتقده الراسخ في ذهنه.. يمشي في طريقه نحو الهلاك لا محالة..
هذا هو الإشكال الذي سقط فيه سيدنا موسى ، فواجه سحرة فرعون واتباعهم الذين يعتقدون بوساطة الجن في التأثير على الطبيعة وما عليها بما فيها الإنسان.. ومن الصعب على موسى في أن يعاكس ثقافتهم الوهمية التي ترعرعت معهم منذ طفولتهم ليقول لهم بأن ما حدث لهم هو نتيجة لقوة التخيلات كما جاءت به الآية :
" فإذا حبالهم وعصيهم يخـيـّل إليه من سحرهم أنها تسعى"
ومن الصعب جدا أن يقول لهم بأن ما جئتم به ما هو إلا ذلك الإدراك الوهمي للواقع نتيجة لقوة التخيلات..
لكن موسى واجه تلك الفيالق التي تميزت بالجهل والثقافة السحرية واثبت لهم بما لا يقبل الشك بطلان معتقداتهم ، وكان نتيجتها أن إستسلم السحرة واتبعوه في عقيدته المقدسة.. وتلك قوة الله التي أودعها في أنبيائه..   
كما أن سيدنا موسى كان يكلم الله جهرة بدون وسيط على خلاف الانبياء الآخرين .. ويخالف جميع هؤلاء الأنبياء من حيث الوظيفة ، فيخرج من نطاق التشريع إلى التربية والتعليم المعقد ليكشف للناس وهمية السحر ..
ونحن وبالرغم من أننا مسلمون ، ونمتلك أقوى كتاب أنزله الله على وجه الكرة الأرضية ، وفيه شرح دقيق جدا لوهمية السحر ، إلا أننا لم نتمكن من إستعاب المفهوم .. وكان فهمه بالنسبة لنا يتميز بالصعوبة والإستحالة ، للدرجة التي نرفض فيها ما تقوله الآية لنستمع إلى ما يقوله الآخرون..
هذا كله لندرك المهمة الصعبة التي قام بها سيدنا موسى ، لتصل في ما بعد إلى حبيبنا محمد (ص) عن طريق القرآن فتزداد إسجلاء ووضوحا..
كل هذه الإمكانيات جعلت موسى يقف عاجزا أمام إمكانيات ذلك الولي الصالح سيدنا الخضر عليه السلام .. ويقرر في الأخير التتلمذ على يده ويتبعه حيثما سار مغتربا عن قومه..
إنه شيء بطبيعة الحال غير معقول تماما.. والعقل في هذه الحالة يقوم بانتقدات لاذعة ، ويقدم مفاهيم مخالفة ، لكن الواقع الذي جاءت به الآيات في سورة الكهف تثبت بأدلة قاطعة في أن سيدنا موسى إتبع سيدنا الخظر إبتغاء إثراء الجانب العلمي الذي يفتقده موسى..
وعجز موسى عجزا كاملا عن مواصلة الدراسة بسبب تعقيد المنهجية التي يقدمها سيدنا الخظر عليه السلام ، وانسحب من الدراسة..
إن رسائل الأنبياء تنتهي بموتهم ، أما رسالة أولياء الله الصالحين تبقى متواصلة إلى يوم الدين وهو السر الذي جاءت به الآية :
" إني جاعل في الأرض خليفة.."
وقعت الآية موقع شبه جملة فتعرب حالا.. أي أنها تدل على الحالية.. والحالية تعقبها الإستمرارية كتكامل بين الأنبياء والأولياء.. وهو ما ظهر من إثراء الجانب الباطني من القرآن عن طريق أهل الصوفية .
وتتواصل الآيات مبرزة عظمة هؤلاء الأولياء ، حيث يقول عز وجل :
" ولقد كتبنا في الزابور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون "
إنهم بما يملكون من أحكام باطنية ، يقومون بإثراء الجانب الغامض من القرآن الكريم ، فيعطونه حقه من الوضوح والتفسير .
والأولياء من هذا المنظور ، يقومون بمحاولة إصلاح الأرض وما ظهر عليها من فساد ، عن طريق الشرح الكامل لآي القرآن مدعمين أقوالهم بالكرامات العالية التي تفوق مستوى التقدير الإنساني ..
                                                                                                            


[1] - الإمام الجرجاني
[2] - سورة النمل.. الآية 19
[3] - سورة الشعراء

الثلاثاء، 7 أبريل 2015

هل صحيح أن الرسول(ص) سحروه ؟


                          هل صحيح أن الرسول(ص) سحروه ؟

إنهم يقولون أن النبي (ص) قد سحره لبيد بن الأعصم في مشطه .. حتى أنه أصيب في صحته النفسية ...
ومنه نستنتج بأنه ما دام حتى الرسول سحر، وتأثر بهذا السحر.. فكيف بالبشر العاديين ؟
إنهم سوف يتأثرون لدرجات خطيرة..
ونحن نتساءل..
إنهم يقولون بتشديد أن السحر هو من أمر الساحر الذي يأمر الشياطين فتهجم على المسحور وتنفذ فيه أوامر هذا الساحر...
أي أنه في هذه الحالة قام الساحر لبيد بن الأعصم بسحر رسول الله (ص) ، فأمر الشياطين أن تهجم على هذا الرسول وتنفذ فيه أوامره..
فهجمت هذه الشياطين على النبي (ص) وفعلت فعلها فيه ..
 بينما نحن نعلم أن الملائكة التي هي أقوى من الشياطين بآلاف الأضعاف ، كانت تحب رسول الله (ص) حبا جما ، وتحب زيارته ولقائه ، لكنها كانت تخاف منه ، وما تتقدم لزيارته حتى تطلب الإذن من الله مصداقا لقوله تعالى:
" وما نتنزل إلا بأمر ربك ".
هذه الملائكة تخاف من مقابلة رسول الله (ص) ، فكيف بالشياطين إذن ؟...
*****************************************************
الرسول (ص) محصن من عند الله بموجب الرسالة التي يحملها ..
فالغمامة كانت تظلله من حر الرمضاء..
والملائكة عن يمينه وعن شماله.. وأمامه ووراءه..
وجبرائيل يكون عنده من وراء سبع سماوات في أسرع من لمح البصر...
 والعلاقة مباشرة بينه وبين الله سبحانه وتعالى ..
*****************************************************
لقد واجه سيدنا موسى عليه السلام آلاف السحرة ، ولم يؤثروا عليه بشيء ، بل هزمهم هزيمة عنيفة جعلتهم يدخلون تحت دعوته بسرعة فائقة .. بينما يتأثر النبي محمد عليه أفضل الصلوات والسلام بسحر واحد فقط إسمه لبيد بن الأعصم ..
ينتصر موسى عليه السلام على آلاف السحرة ، وينهزم محمد عليه الصلاة والسلام أمام ساخر واحد..
الأمر يدعو أيها القارئ إلى فرصة أكبر للتفكير في صحة هذا الإدعاء من خطئه..
*****************************************************
بعد حوالي سنة من إنتصار المسلمين في غزوة بدر ، جاءت قريش ثائرة في غزوة أحد ، يقودها خالد بن الوليد قبل إسلامه ، والذي كان مكلفا بقتل الرسول محمد (ص).. وانتصرت قريش في هذه المعركة إنتصارا باهرا بسبب كثرة عددهم .. وبسبب مخالفة بعض من المسلمين لأوامر النبي (ص)..
وخرج خالد وجها لوجه مع النبي (ص) شاهرا نبله تجاه صدره ، لكن النبل أبى إلى أن يخرج من يد خالد .. وأبت يد خالد في أن تطلق النبل منها بالرغم من تصميمه على قتل النبي.. وبعد المحاولة والجهد الذي باء بالفشل إنصرف خالد آسفا وموقنا بأن وراء الرجل نبوة بالفعل.. وبعدها بقليل أشهر إسلامه.
إذن فهذه النبل إمتنعت عن القيام بجريمة في حق نبي البشرية جمعاء ، ولم يستطع الحديد النفاذ إلى جسم الرسول لأنه محصن بعناية السماء.. فكيف بالسحر إذن ؟
*****************************************************
في أحد الغزوات التي كانت بقيادة سيدنا خالد رضي الله عنه .. أوصى في غزواته بأن يتركوا له قائدهم " عقة بن أبي عقة " لكي يقتله بنفسه.. ولما إنتصر المسلمون في هذه الغزوة ، كان خالد يجري على حصانه وينادي بأعلى صوته :
" دعوا عقة بن أبي عقة لي.. دعوا عقة بن أبي عقة لي.."
ومسك به خالد.. ونزع الخاتم الذي كان في يده مغمورا بسم الأفاعي..
لقد حضر عقة بن أبي عقة سم الأفاعي في جوف الخاتم تحسبا في أن يقع في يد خالد ، فيموت إنتحارا بالسم بدلا من الموت بسيفه..
فارتشف سيدنا خالد ذلك السم بالرغم من صياح الصحابة وممانعتهم وتحذيرهم من ذلك.. لكنه لم يطرأ عليه شيء ..
لم يتأثر خالد بذلك السم القاتل.. ولم يعمل فيه شيئا..
ولما رأى عقة تلك الكرامة العظيمة التي حصنت خالدا حتى من سم الأفاعي أيقن من صحة ما يدعو له المجاهدون المسلمون و أشهر إسلامه..
إذن فهذا خالد الذي هو واحد من أصحاب رسول الله لم يعمل معه السم شيئا ، فكيف بالسحر أن يعمل في رسول الله إذن ؟
ألم يؤدي هذا الإدعاء إلى الحط من قيمة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ؟
إلى الحط من قيمة نبي البشرية جمعاء..؟
إلى الحط من قيمة أعظم نبي ، مفضل على سائر الأنبياء والرسل..؟
إلى الحط من قيمة أغظم رجل على وجه الكرة الأرضية والكون كله ؟
*****************************************************
إنهم يقولون أن السحر يزول بالرقيا.. حيث يقوم الراقي بتلاوة القرآن بما فيه آيات بطلان السحر.. فيتخلص المصاب من هذا السحر بسبب هذه التلاوة..
غير أن الرسول (ص) يحمل هذا القرآن في صدره منقوشا في ذاكرته وفي قلبه ، بقراءته الصحيحة كما سمعها من سيدنا جبرائيل عليه السلام ، وليس كما يقرأها الراقي.. ولا نظن أبدا بوجود شخص يعرف القرآن أحسن من محمد (ص) ، ويقرأه بمخارج حروفه مثله.. وهو إضافة إلى ذلك يقرأ وردا صباحا ومساء.. ويذكر الله قائما أو قاعدا أو نائما.. حتى أن زفرات أنفاسه كانت كلها ذكرا لله سبحانه وتعالى..
هذا النبي الذي يحمل ما هو ضد السحر ، يتأثر بهذا السحر..
هذا النبي الذي يرقي نفسه بنفسه يتأثر بالسحر..
ألم يقل أهل الرقيا أن هناك آيات في القرآن تحصن الإنسان وتحفضه من السحر ؟
إذا كان الأمر كذلك فكيف بالنبي الذي لا يحفظ مجرد آيات فقط ، بل يحفظ القرآن كله مع طريقة قراءة ، ومعرفة شرحه وأسراره..
إن الأمر يدعو إلى التساءل ، والتفكير ولو قليلا في الأمر.. 

النظرة الحقيقية للأشياء



النظرة الحقيقية للأشياء

إنك حينما تنظر إلى شيء ما ، فإن نظرتك ليست حرة.. بل هي مقيّدة ومرتبطة بما يراه الآخرون.. الذين طبعوا هذه الرؤيا بالتسمية .. فيصبح عندئذ الإسم والمسمى شيئا واحدا .. والإلتصاق الذي حدث في هذه المادة يشكل مركّبا من مجموعة من الأشياء ..
 فأحدهم مادة.. وشكل.. ولون.. لهذه المادة.. ثم تسمية لهذه المادة..
وأصبحت هناك علاقة تربط بين الإسم والمسمى أو بين الدال والمدلول ..
وبهذه النظرة فأنت لم تر الشيء بمفهومه الحقيقي إلا من خلال تسميته التي وضعها الإنسان .. فأنت عندئذ تنظر لهذا الشيء بإسمه الذي تعلمته عن الآخرين.. لا بالتصور الحقيقي النابع من داخل ذاتك..
 أما إذا جردت الشيء من إسمه.. ثم بعد فترة إستطعت أن تجرده من مادته .. ومن شكله.. ومن لونه.. لتصل بعد وقت طويل من فصله عن مادته التي يتكون منها .. فأنت عندئذ وصلت إلى المفهوم الحقيقي لهذا الشيء .. وبمعرفتك الخاصة المستقاة من الفطرة التي خلقك الله عليها.. والخالية من التبعية للغير .. لأن هذه التبعية تأخذ من الناحية الصحية إنفصال الأنا عن الذات وانعدام الجوهر الروحي أو الميتافيزيقي للإنسان.. الذي هو أوسع بكثير من الأحكام التي تقدمها الحواس في شكلها السمعي الذي حكم على الأنا بعقوبة الإعدام دون محاكمة..
خذ مثلا كأسا وانظر إليه بعينيك لمدة دقيقة على الأكثر.. ثم أغمض عينيك.. وحاول أن ترى الصورة الذهنية لهذا الكأس كما كنت تراها سابقا في الواقع..
وفي هذه الحالة أصبحت ترى الكأس وأنت مغمض العينين بمثل ما كنت تراه وأنت فاتح عينيك..
فبأي عين ترى الآن ؟
إنك ترى بإحساسك الداخلي .. بالبصيرة التي أودعها الله فيك وهي خالية من أحكام الآخرين ..
وفي النظرة الأولى ، كانت رؤيتك خارجية ، أما في النظرة الثانية فرؤيتك داخلية..
الرؤية الأولى كانت بوساطة العينين والثانية بوساطة اللاعينين..
الرؤية الأولى كانت بالعقل أما الثانية فكانت بواسطة الإحساس..
والإحساس أوسع من العقل.. فالعقل تنتهي مهمته بمجرد صرف الإنتباه عن الشيء ..بينما الإحساس يظل قائما وإن أصرفت إنتباهك عن هذا الشيء..
النظرة الأولى كانت مستمدة من الواقع الخارجي بالإعتماد على الإدراك المطبوع بفكر الآخرين ، والثانية مستمدة من الواقع الداخلي بالإعتماد على الإحساس والبصيرة المطبوعة بالفطرة الإلهية فيك..
وأي شيء أثمن بين الإثنين ؟
هل تعاليم الغير أم تعاليم الذات ؟
وشيئا فشيئا ، ويوم بعد يوم ، من التدريب المتواصل ، على النظرة الداخلية للأشياء سوف تصبح قادرا على الفصل بين الإسم والمسمى ، ثم بين المسمى وشكله ، ثم بين هذا المسمى ومادته التي يتكون منها .. وعندئذ تتوصل إلى معنى الكأس الحقيقي والذي إستمديته من الفطرة الربانية فيك .. ومنه الوصول إلى مفاهيم تجعلك ترى أن العالم ما هو إلا في طوره الحقيقي والأخير من الوهم ، وما نحن إلا ضحية مفاهيم عمياء جاءتنا من مفاهيم الغير اللامشروعة بمشروعية العقل الخاطىء الذي يقودها تحت راية أنانيتنا النكراء..
فالبصيرة هي ذلك التحول من خارج الذات إلى داخلها ..كما هي عملية إنعكاس للعالم الخارجي على العالم الداخلي للإنسان..
النظرة الداخلية للواقع ، هي تلك التمرينات التي يقوم بها المتأمل..وهي عبادة كاملة لسيدنا إبراهيم عليه السلام ، ومعظم الأنبياء من قبله ومن بعده.. ووصلت إلى رجال الصوفية أيضا ، والذين جاءوا بحقائق هامة عن أسرار باطنية.. وهذا إلى جانب ما قام به رجال اليوغا.. وأهل الكارما..
إن الغوص العميق في الذات ، بواسطة هذه الذات ، يجعلك ترى الأشياء من داخل نفسك (عن طريق البصيرة) لا من خارجها.. طبقا لقوله عز وجل:
" فتبصروا يأولي الألباب "
والبصيرة أكبر وأوسع من العقل.. فهي تمثل السماء ، والأفكار المنبثقة عن العقل تماثل الغيوم السابحة في هذه السماء.. والسماء أوسع من الغيوم.. مماثلة للإحساس الذي هو أكبر من العقل.
إننا عندما نغوص في أعماق الكون برؤية داخلية نابعة من عمق بصيرتنا ، تتراءى لنا تلك الوحدة العضوية الموجودة في هذا الكون الشاسع ، بصورة مرتبطة مع بعضها البعض.. بحيث أن كل عنصر من هذا الكون يخدم العنصر الآخر ، وبحيث تنعدم الإستقلالية من هذا الموضوع إنعداما كاملا..على عكس ما تراه النظرة الخارجية..
وعندما نغوص في أعماق أنفسنا ، تتراءى لنا تلك الوحدة العضوية أيضا والموجودة في أجسامنا وأنفسنا بشكل مماثل تماما لوحدة الكون .. مما جعل العلماء يقولون بأن الإنسان صورة مصغرة عن هذا الكون.. من حيث التشابه والتركيب والتناسق ، وعدم وجود إستقلالية لعنصر ما عن العنصر الآخر..
والإنسان بهذا المفهوم هو الكون كاملا.. وهذا ما وصل إليه علم التأمل من حقائقه الحديثة عن الكون والإنسان..
ويقول الإمام علي كرم الله وجهه:
" وفيك إنطوى العالم الأكبر[1] "
وهي العبارة التي تلخص علم التأمل من جذوره ، والذي إذا تطرقنا للكتابة عنه فلا تكفي المجلدات..
وقد كتب الإمام أبوحامد الغزالي في علم البصيرة مفاهيم عميقة ، أخذتها ألمانيا لنفسها وكونت بها المدرسة الجشتالتية ، بعد مائتي سنة ، والتي تقوم على مبدأ أسبقية الكل لأجزائه.. والكل لا يمكن إدراكه إلا بالبصيرة ، التي تمد العقل في ما بعد بإدراك الأجزاء.
وبموجب الوحدة العضوية الموجودة في الكون ..
 تعرفنا أيضا على تلك الوحدة العضوية الموجودة في جسم الإنسان ..
ومنه إلى الوحدة العضوية الموجودة في القرآن..
لما قام سيدنا سليمان بتلك المبادرة التي جاء بها بعرش بلقيس في أسرع من لمح البصر[2]، كنا قد إستبصرنا بأن الجن وقف عاجزا أمام طلب الملك سليمان ، في حين أن الذي عنده علم من الكتاب فاز بالأمر المطلوب .. الأمر الذي يستثني الجن من هذه المبادرة ويرشح الإنسان الحامل لهذا العلم لا محالة..
فما هو هذا العلم الذي يمكّن الإنسان من جلب الأشياء في سرعة الضوء مهما كان بعدها الزمني ؟
لاشك أنه علم الروح.. الذي يبدأ بمداخلة البصيرة.. لأن علم المادة يتميز بطابع حاد متمثل في معرفة العلاقات بين الظواهر لا غير .. لكنه يقف عاجزا أمام االظاهرة نفسها بحكم إعتماده على الإدراك لهذه الظاهرة عن طريق الحواس التي لها قدرة محدودة .. فلا تستطيع العين مثلا أن ترى ملكة بلقيس على بعد من الاميال.. ولا تستطيع الأذن أن تسمع في حدود  ذلك البعد أيضا..
ولا تستطيع الأقدام أن تجري مسافة ما إلا في حدود زمن ما ..
أما الروح فبإمكانها أن ترى وتسمع بالرغم من آلاف الأميال ..
إنك عندما تبدأ في ملاحظة الأشياء ملاحظة خارجية ، تعقبها ملاحظة داخلية ، تتوصل كما قلنا سابقا من تجريد الشيء من الشوائب التي ألتصقت به ، أي أصبحت ترى روح الشيء لا مادته .. ثم تخرج من ملاحظتك الجديدة لذلك الشيء إلى إعدامه تماما بحيث يصبح أمامك الفراغ المطلق .. وحالما وصلت لذلك الفراغ فأنت عندئذ بمعية الله ..
 ولذلك يقول الرسول (ص) :
" تأمل ساعة خير من عبادة سبعين سنة "
والبصيرة تحوّلك من ذلك الطابع الحيواني ، إلى الطابع الإنساني الحقيقي الذي هو خليفة الله في أرضه ، والذي يرى الأشياء على حقيقتها بمنظار إلاهي لا بالمنظار الذي صنعه الغير له... أي أنها عملية تحوّل من الخارج إلى الداخل وصولا إلى الجوهر الحقيقي لذات الإنسان.
وحالما يبدأ الإنسان في التعامل مع الواقع عن طريق إعدام الفكر وتزكية البصيرة ، فإنه يرى الأحكام التي ينص بها العقل كما لوكانت سرابا يحسبه الضمآن ماء.. فيصبح يرى العالم على الحقيقة التي جاء بها.



[1] - من كتاب نهج البلاغة
[2] - سورة النمل

حفظ القرآن من التحريف



                                      

القرآن هو المصدر الأول للعلم.. ومن أجل ذلك توعد الله بحفظه وسلامته من التحريف عبر الدهور والأزمنة ، بحيث يكون صالحا لكل زمان ومكان.
فما هي الإجراءات والتقنيات والطرق والأساليب التي أدرجها الله من أجل حفظ و سلامة هذا القرآن ؟
إن القرآن بطبيعة الحال يتكون من الجوهر والعرض.
الجوهر هو الآية كما هي وكما نزلت على النبي محمد (ص) بواسطة الوحي.
العرض هو إعطاء مفهوم الآية وتفسيرها.. وقد يكون هذا التفسير صحيحا أو خاطئا حسب قدرة علماء التفسير في ذلك.. وحسب الزمان والمكان الذي تواجد فيه هذا التفسير. وفي حالة ما إذا كان هذا التفسير خاطئا أو يظهر عليه خلل منطقي لا يساعد على الإدراك الحقيقي للمفهوم.. فإن الله سبحانه وتعالى أدرج مجموعة كبيرة من الطرق تمنع الإنحراف عن المفهوم الحقيقي ومفهوم المعنى الذي جاءت به الآية.
ومن بين هذه الإجراءات ما يلي :
- 1/الطرح المكرر للآيات (تقنية توزيع المفهوم على مجموعة من السور) :
فقد جاء الطرح لأي مفهوم في القرآن الكريم بصورة مكررة في مجموعة من الآيات وعبر مجموعة من السور المتفرقة.. فلو إنحرف التفسير عن المفهوم على مستوى الآية في سورة ما.. فإن هذا الإنحراف لن يكمل مسيرته على مستوى الآيات المطروحة في السور الأخرى..
فقد جاءت هذه الآيات وكأنها تحرس بعضها من الإنحراف على المسار الصحيح .
فلو تناولنا مفهوم السحر في القرآن الكريم ، نجده قد نزل في ثلاثة وستين آية توزعت عبر السور الأخرى في شكل شجرة سمتها العلماء بشجرة القرآن[1] وكل واحدة من هذه الآيات تشرح الآية التي سبقتها وتمهد لما بعدها.
فقد نجد آية السحر على مستوى سورة البقرة :
" واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.......................خلاق"
وقد نذهب في تفسيرها إلى أن الساحر يتفق مع الشيطان ويتحالف معه عن طريق القيام بأعمال محرمة تحوي مخالف الشرع في مضمونها ، مقابل مساعدة الشيطان له في التأثير على الطبيعة وما عليها..
غير أن الآية السابقة لها أو اللاحقة ،  تنفي مشروعية هذا التفسير من الوجهة المنطقية الصادرة عن القرآن الكريم.. حيث أن الآية نفسها تشير إلى أن الشياطين تعلم الناس السحر ولم تشر إلى هذا الإتفاق إطلاقا.. لأن المعنى المرادف لكلمة تعلم ليست يتفق.
وتكررت كلمة التعليم خمسة مرات في نفس الآية كدلالة على التأكيد ومنع تحريف المعنى ، وذلك في ما يلي :
" وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
كما أننا نعلم مما علمنا القرآن الكريم أن الشيطان يسقط الإنسان في الزلل.. وما أن يسقطه في هذا الزلل حتى يلتفت إليه قائلا :
" إني بريء منك "
فهو يهرب منه ولا يتفق معه طبقا لما جاءت به الآية الكريمة..
فبراءة الشيطان من الإنسان تنفي إتفاقه معه..
ومن جهة أخرى ، فإن الآيات السابقة واللاحقة ، تشير إلى أن السحر عبارة عن عملية خداع بصري يتم عن طريق عدم الإدراك السليم للواقع ممثلا في عملية التخيل مصداقا للآية الكريمة :
" فإذا حبالهم وعصيهم يخـيّـل إليه من سحرهم أنها تسعى "
وجاءت الآية الأخرى لتخبرنا على أن السحر عبارة عن عملية هلوسة بصرية تحدث للناظرين :
" فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم "
فهذه الآية قامت بحراسة الآية الأولى.. حيث أن هذه الأولى تفسر باتفاقية الساحر مع الشيطان.. في حين أن الثانية تفسر بحدوث هلوسة بصرية تمت عن طريق التخيلات التي تمثلت في الإدراك الغير سليم للواقع..
مع العلم أن هذه الهلوسة البصرية يمكن إحداثها عن طريق التنويم المغناطيسي بصورة واضحة ، وملموسة ، ولا علاقة لذلك بالشيطان على الإطلاق ، ولا علاقة لها بهذا الإتفاق الخيالي الغير مشروع من الوجهة القرآنية ..
وكذلك الأمر بالنسبة للفكرة الطارحة للخوف الذي حدث لسيدنا موسى عليه السلام حينما واجه سحرة فرعون.. إذ يقول سبحانه عز وجل :
" فأوجس في نفسه خيفة "
فهي تكررت من أجل حفظ وحماية الآية :
" موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى "
وهي أيضا تكررت من أجل تأكيد وحماية الآية:
" ياموسى إني لا يخاف لدي المرسلون "
  والتكرار بين الآيتين :
" وقال موسى ما جئتم به السحر "
و
" إنما صنعوا كيد ساحر "
فلو إنحرف أحدهم عن المعنى المندرج في الآية الأولى ، فإنه عبثا يفعل مع الآية الثانية أو الثالثة أو..
و ما من آية جاءت في القرآن إلا وآلية التكرار تطبعها في نفس السورة أو في السور الأخرى.. 
- 2/ تقنية توظيف الكلمات في مكانها المناسب:
فقد وضعت في القرآن الكريم كلمات علمية بلاغية ، في مكانها المناسب ، بحيث لا يمكن إستبدالها بكلمات أخرى.. وبحيث تعطي المفهوم الحقيقي للمعنى بدقة لا متناهية ..
فعندما أراد الله مثلا أن يخبرنا في أن جسم النمل يتكون من زجاج ، جاءت الآية موظفة كلمة التحطيم الذي لا يمكنه أن يعبّر إلا على الأشياء السهلة الكسر مثل الزجاج، مصداقا للآية :
" قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون "[2]
كذلك عندما ندوس بيوت النمل بأقدامنا كما قد تفعل جنود سليمان عليه السلام ، فإنه لا يمكننا إستعمال كلمة أخرى بدلا من كلمة " يحطمنكم " مهما بلغ إستعدادنا اللغوي والبلاغي ..
وفعلا فقد ذهب بعضهم إلى القول بأن النملة التي تكلمت مع النبي سليمان عليه السلام ، ليست نملة كما قد نعتقد .. وإنما هي إمرأة تسمى بالنملة وتسكن بواد يسمى بواد النمل.. لكن كلمة التحطيم تقف ضد هذا التفسير وقوفا صارما.
ولما أراد الله أن يخبرنا بأن مخابرات النبي سليمان عليه السلام هي من الطيور فإنه إستعمل الكلمات التي تدل على الطير الممثل في الهدهد كما جاء في الآية :
" .. فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين "
و الإحاطة تدل على دوران الطير في السماء ..
وحتى التكرار كان واضحا في الكلمتين :
.. احطت.. تحط به..
فكلمة " تحط به " جاءت تأكيدا لكلمة " أحطت " و حارسة لها.
وكذلك في نفس السورة :
" ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السماوات والأرض .. "
لأن الطير ما يهمه إلا ما هو تحت التراب وما تحت الثرى ..
وهو ما يعطي دلالة قاطعة في أن الهدهد الذي تكلمت عليه الآية هو من الطير وليس شيء آخر كما جاءت به بعض التفسيرات الأخرى التي لم تنتبه إلى الإعجاز البلاغي والعلمي في القرآن الكريم ..
فقد قال بعض المفسرين بأن الطير الذي تكلم مع النبي سليمان هو إنسان يسمى بالهدهد والذي كان يستعمله هذا النبي في مخابراته العسكرية.. لكن الكلمات البلاغية التي جاءت في هذا المضمار تنفي هذا التفسير نفيا قاطعا..
وعندما طلب الله من موسى التوجه إلى فرعون ، دعاه موسى أن يجعل له وزيرا من أهله ممثلا في أخيه هارون .. وهذا إنما يدل على إصابة موسى بعقدة الدونية حيث يرى الإنسان نفسه دون غيره من الناس.. مما يعرضه إلى عدم القدرة على مواجهة هؤلاء الناس ، وهذا طبعا ناتج عن السلوك التربوي الذي مر به موسى إبان طفولته .. وهو نفس السبب في مناداة الله له :
" موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى "
وكلمة الأعلى هي الكلمة الوحيدة التي تعبر عن عكس الدونية..
ولما أراد الله أن يخبرنا عن يوم البعث إستعمل كلمة " زرتم " في الآية :
" ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر.."
ليدلنا أن عملية الدفن ما هي إلا زيارة مؤقتة للمقبرة ، لأنه سوف يحيا الإنسان من جديد يوم البعث..
وهناك أمثلة كثيرة في هذا الصدد.. ولا يمكننا إدراجها كلها.
-3/ تقنية الإزدواجية في المعنى :
وهكذا إستخلصنا بأن كل كلمة في القرآن جاءت في مكانها المناسب ، دون القدرة على إستبدالها بغيرها .. وهذا الطرح ياتي كذلك بصورة إزدواجية للمعنى أي يكون معنى الآية مزدوجا في مفهومين يكمل أحدهما الآخر دون أن يضاده ..
يكون المعنى الأول ظاهريا ، بحيث يمكن فهمه دون جهد أو عناء..
ويكون المعنى الثاني باطنيا ويتم إستخلاصه بعد إستخدام الآليات المنطقية التي أشار إليها القرآن الكريم..
وعلى سبيل المثال ، في ما جاء في سورة يوسف عن طريق الآية :
" إذ قال لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين "  
فالمعنى الظاهري يشير إلى أن سيدنا يوسف عليه السلام رأى عددا معلوما من الكواكب والشمس والقمر في حالة سجود له.
أما المعنى الباطني فيشير إلى مفهوم أعمق.. ويذهب هذا المفهوم إلى الإمكانيات اللغوية التي كان إنسان ما قبل التاريخ يستعملها في التواصل مع غيره من البشر.. إنها أول لغة عرفها الإنسان على وجه الأرض وهي اللغة الرمزية.
فكان الإنسان يعبر عن الإخوة بالكواكب في رسالته إلى الغير.. والشمس والقمر بالأبوين .. والشجرة بالحياة أو الموت.. والأزهار بالفرحة أو العرس.. و..
وهذه اللغة سكنت في العقل الباطني لدى الإنسان وتوارثتها الأجيال جيلا بعد جيل لآلاف السنوات.. وأصبحت تظهر في أحلام الإنسان .. ولذلك يقول سبحانه عز وجل :
" وعلم آدم الأسماء كلها "
والأسماء هي اللغات التي بإمكان الإنسان أن يستعملها إضافة إلى العلوم التي علمها الله لسيدنا آدم عليه السلام[3].
وإذا غصنا في الموضوع أكثر فأكثر ، نجد أن الله يعلمنا علم الوراثة عن طريق النظرة الباطنية للآية .
وهناك آلاف المفاهيم من وراء الآية المذكورة والتي يتم إستخلاصها بالإستبطان والذي نادى به أهل الصوفية.
كما نجد أن كل آية في القرآن تؤدي معناها الأدبي كما يراها أهل التفسير الظاهري .. لكنها في واقع الأمر تؤدي معناها العلمي على أدق وجه.. وهو ما يعطيها إزدواجية المعنى ومما يجعل التحريف أيضا أمرا مستحيلا.. 
-         4/ تقنية التعزيز
ونقصد بذلك إحاطة الآية بكلمة تمنع هذه الآية من الإستسلام إلى التحريف عن المسار الصحيح في المعنى.. ثم إحاطة هذه الكلمة بكلمة أخرى تعمل على سلامة وحفظ الكلمة الأولى..
وكمثال على ذلك ، نتوجه إلى الآية :
" ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا يحزنون "
فقد كان سبحانه عز وجل يعلم الحالة التي سوف يتعرض لها أولياءه الصالحين من إنتقادات جارحة.. وضربات مبرحة.. فحفظهم بمؤكدين إثنين[4].. يتمثل الأول منهما في المؤكد "..ألا.." ويتمثل الثاني في المؤكد ".. إن.." .
فقد أكد الله الخبر بالمؤكدين ليقوم أحدها بحراسة وتأكيد الآخر..
فالمؤكد الثاني "..إن.." يقوم بتقديم وتأكيد المفهوم الكامل لأولياء الله الصالحين على هذه الصورة :
" .. إن أولياء الله الصالحين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون "
ثم يأتي المؤكد الثاني من أجل تأكيد وحراسة الأول بهذه الصورة :
" ألا إن أولياء الله الصاحين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون "
وبصورة عامة ، فإنه إذا تكلمنا عن الإجراءات والأساليب التي إستخدمها الله في محاربة التحريف لآياته وحفطها بالحفظ الذي توعد به في الآية :
" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "
فإنه لا تكفينا هذه الصفحات القليلة ، اللهم إلا في طرحها عبر مجلد كامل في مجموعة كبرى من الأجزاء.. وإنما ليعلم القارئ بأن في حالة إصدار حكم ما أو تفسير لآية من الآيات ينبغي الرجوع إلى الآيات المرافقة لها في نفس المقام نتيجة للترابط الموجود بينها.. والرجوع للكلمات الطارحة للمعنى.. بحيث تنتهي عملية الشرح بخيط واحد يربط مفهوم كل هذه الآيات بمفهوم واحد وموحّد لا يظهر عليه خلل في الإدراك السليم لهذا المفهوم.

                                                ر.م
            



[1] - الشيخ محمد الغزالي رحمه الله
[2] - سورة النمل
[3] - هذا الموضوع طويل جدا ولا يمكن الكلام عنه في عدد قليل من الصفات.. وسنتكلم عنه بالتفصيل في كتاب بإطن الله.
[4] - الإمام الجرجاني