اعلان

الثلاثاء، 7 أبريل 2015

النظرة الحقيقية للأشياء



النظرة الحقيقية للأشياء

إنك حينما تنظر إلى شيء ما ، فإن نظرتك ليست حرة.. بل هي مقيّدة ومرتبطة بما يراه الآخرون.. الذين طبعوا هذه الرؤيا بالتسمية .. فيصبح عندئذ الإسم والمسمى شيئا واحدا .. والإلتصاق الذي حدث في هذه المادة يشكل مركّبا من مجموعة من الأشياء ..
 فأحدهم مادة.. وشكل.. ولون.. لهذه المادة.. ثم تسمية لهذه المادة..
وأصبحت هناك علاقة تربط بين الإسم والمسمى أو بين الدال والمدلول ..
وبهذه النظرة فأنت لم تر الشيء بمفهومه الحقيقي إلا من خلال تسميته التي وضعها الإنسان .. فأنت عندئذ تنظر لهذا الشيء بإسمه الذي تعلمته عن الآخرين.. لا بالتصور الحقيقي النابع من داخل ذاتك..
 أما إذا جردت الشيء من إسمه.. ثم بعد فترة إستطعت أن تجرده من مادته .. ومن شكله.. ومن لونه.. لتصل بعد وقت طويل من فصله عن مادته التي يتكون منها .. فأنت عندئذ وصلت إلى المفهوم الحقيقي لهذا الشيء .. وبمعرفتك الخاصة المستقاة من الفطرة التي خلقك الله عليها.. والخالية من التبعية للغير .. لأن هذه التبعية تأخذ من الناحية الصحية إنفصال الأنا عن الذات وانعدام الجوهر الروحي أو الميتافيزيقي للإنسان.. الذي هو أوسع بكثير من الأحكام التي تقدمها الحواس في شكلها السمعي الذي حكم على الأنا بعقوبة الإعدام دون محاكمة..
خذ مثلا كأسا وانظر إليه بعينيك لمدة دقيقة على الأكثر.. ثم أغمض عينيك.. وحاول أن ترى الصورة الذهنية لهذا الكأس كما كنت تراها سابقا في الواقع..
وفي هذه الحالة أصبحت ترى الكأس وأنت مغمض العينين بمثل ما كنت تراه وأنت فاتح عينيك..
فبأي عين ترى الآن ؟
إنك ترى بإحساسك الداخلي .. بالبصيرة التي أودعها الله فيك وهي خالية من أحكام الآخرين ..
وفي النظرة الأولى ، كانت رؤيتك خارجية ، أما في النظرة الثانية فرؤيتك داخلية..
الرؤية الأولى كانت بوساطة العينين والثانية بوساطة اللاعينين..
الرؤية الأولى كانت بالعقل أما الثانية فكانت بواسطة الإحساس..
والإحساس أوسع من العقل.. فالعقل تنتهي مهمته بمجرد صرف الإنتباه عن الشيء ..بينما الإحساس يظل قائما وإن أصرفت إنتباهك عن هذا الشيء..
النظرة الأولى كانت مستمدة من الواقع الخارجي بالإعتماد على الإدراك المطبوع بفكر الآخرين ، والثانية مستمدة من الواقع الداخلي بالإعتماد على الإحساس والبصيرة المطبوعة بالفطرة الإلهية فيك..
وأي شيء أثمن بين الإثنين ؟
هل تعاليم الغير أم تعاليم الذات ؟
وشيئا فشيئا ، ويوم بعد يوم ، من التدريب المتواصل ، على النظرة الداخلية للأشياء سوف تصبح قادرا على الفصل بين الإسم والمسمى ، ثم بين المسمى وشكله ، ثم بين هذا المسمى ومادته التي يتكون منها .. وعندئذ تتوصل إلى معنى الكأس الحقيقي والذي إستمديته من الفطرة الربانية فيك .. ومنه الوصول إلى مفاهيم تجعلك ترى أن العالم ما هو إلا في طوره الحقيقي والأخير من الوهم ، وما نحن إلا ضحية مفاهيم عمياء جاءتنا من مفاهيم الغير اللامشروعة بمشروعية العقل الخاطىء الذي يقودها تحت راية أنانيتنا النكراء..
فالبصيرة هي ذلك التحول من خارج الذات إلى داخلها ..كما هي عملية إنعكاس للعالم الخارجي على العالم الداخلي للإنسان..
النظرة الداخلية للواقع ، هي تلك التمرينات التي يقوم بها المتأمل..وهي عبادة كاملة لسيدنا إبراهيم عليه السلام ، ومعظم الأنبياء من قبله ومن بعده.. ووصلت إلى رجال الصوفية أيضا ، والذين جاءوا بحقائق هامة عن أسرار باطنية.. وهذا إلى جانب ما قام به رجال اليوغا.. وأهل الكارما..
إن الغوص العميق في الذات ، بواسطة هذه الذات ، يجعلك ترى الأشياء من داخل نفسك (عن طريق البصيرة) لا من خارجها.. طبقا لقوله عز وجل:
" فتبصروا يأولي الألباب "
والبصيرة أكبر وأوسع من العقل.. فهي تمثل السماء ، والأفكار المنبثقة عن العقل تماثل الغيوم السابحة في هذه السماء.. والسماء أوسع من الغيوم.. مماثلة للإحساس الذي هو أكبر من العقل.
إننا عندما نغوص في أعماق الكون برؤية داخلية نابعة من عمق بصيرتنا ، تتراءى لنا تلك الوحدة العضوية الموجودة في هذا الكون الشاسع ، بصورة مرتبطة مع بعضها البعض.. بحيث أن كل عنصر من هذا الكون يخدم العنصر الآخر ، وبحيث تنعدم الإستقلالية من هذا الموضوع إنعداما كاملا..على عكس ما تراه النظرة الخارجية..
وعندما نغوص في أعماق أنفسنا ، تتراءى لنا تلك الوحدة العضوية أيضا والموجودة في أجسامنا وأنفسنا بشكل مماثل تماما لوحدة الكون .. مما جعل العلماء يقولون بأن الإنسان صورة مصغرة عن هذا الكون.. من حيث التشابه والتركيب والتناسق ، وعدم وجود إستقلالية لعنصر ما عن العنصر الآخر..
والإنسان بهذا المفهوم هو الكون كاملا.. وهذا ما وصل إليه علم التأمل من حقائقه الحديثة عن الكون والإنسان..
ويقول الإمام علي كرم الله وجهه:
" وفيك إنطوى العالم الأكبر[1] "
وهي العبارة التي تلخص علم التأمل من جذوره ، والذي إذا تطرقنا للكتابة عنه فلا تكفي المجلدات..
وقد كتب الإمام أبوحامد الغزالي في علم البصيرة مفاهيم عميقة ، أخذتها ألمانيا لنفسها وكونت بها المدرسة الجشتالتية ، بعد مائتي سنة ، والتي تقوم على مبدأ أسبقية الكل لأجزائه.. والكل لا يمكن إدراكه إلا بالبصيرة ، التي تمد العقل في ما بعد بإدراك الأجزاء.
وبموجب الوحدة العضوية الموجودة في الكون ..
 تعرفنا أيضا على تلك الوحدة العضوية الموجودة في جسم الإنسان ..
ومنه إلى الوحدة العضوية الموجودة في القرآن..
لما قام سيدنا سليمان بتلك المبادرة التي جاء بها بعرش بلقيس في أسرع من لمح البصر[2]، كنا قد إستبصرنا بأن الجن وقف عاجزا أمام طلب الملك سليمان ، في حين أن الذي عنده علم من الكتاب فاز بالأمر المطلوب .. الأمر الذي يستثني الجن من هذه المبادرة ويرشح الإنسان الحامل لهذا العلم لا محالة..
فما هو هذا العلم الذي يمكّن الإنسان من جلب الأشياء في سرعة الضوء مهما كان بعدها الزمني ؟
لاشك أنه علم الروح.. الذي يبدأ بمداخلة البصيرة.. لأن علم المادة يتميز بطابع حاد متمثل في معرفة العلاقات بين الظواهر لا غير .. لكنه يقف عاجزا أمام االظاهرة نفسها بحكم إعتماده على الإدراك لهذه الظاهرة عن طريق الحواس التي لها قدرة محدودة .. فلا تستطيع العين مثلا أن ترى ملكة بلقيس على بعد من الاميال.. ولا تستطيع الأذن أن تسمع في حدود  ذلك البعد أيضا..
ولا تستطيع الأقدام أن تجري مسافة ما إلا في حدود زمن ما ..
أما الروح فبإمكانها أن ترى وتسمع بالرغم من آلاف الأميال ..
إنك عندما تبدأ في ملاحظة الأشياء ملاحظة خارجية ، تعقبها ملاحظة داخلية ، تتوصل كما قلنا سابقا من تجريد الشيء من الشوائب التي ألتصقت به ، أي أصبحت ترى روح الشيء لا مادته .. ثم تخرج من ملاحظتك الجديدة لذلك الشيء إلى إعدامه تماما بحيث يصبح أمامك الفراغ المطلق .. وحالما وصلت لذلك الفراغ فأنت عندئذ بمعية الله ..
 ولذلك يقول الرسول (ص) :
" تأمل ساعة خير من عبادة سبعين سنة "
والبصيرة تحوّلك من ذلك الطابع الحيواني ، إلى الطابع الإنساني الحقيقي الذي هو خليفة الله في أرضه ، والذي يرى الأشياء على حقيقتها بمنظار إلاهي لا بالمنظار الذي صنعه الغير له... أي أنها عملية تحوّل من الخارج إلى الداخل وصولا إلى الجوهر الحقيقي لذات الإنسان.
وحالما يبدأ الإنسان في التعامل مع الواقع عن طريق إعدام الفكر وتزكية البصيرة ، فإنه يرى الأحكام التي ينص بها العقل كما لوكانت سرابا يحسبه الضمآن ماء.. فيصبح يرى العالم على الحقيقة التي جاء بها.



[1] - من كتاب نهج البلاغة
[2] - سورة النمل

ليست هناك تعليقات: