اعلان

الاثنين، 13 أبريل 2015

كرامة في قطعة جريدة..




حدثني أحدهم فقال :
لقد عشت تجربة شخصية بنفسي ، أيام السبعينات حينما كنت شابا في سن الثامنة أو التاسعة عشر ..
كنت والعياذ بالله أشك في مصداقية القرآن وما جاء به سيدنا محمد(ص) ...وأشك في وجود الله .. باعتبارات فلسفية خلقت بداخلي ثورة فكرية شملت إيماني وعد التصديق بالغيبيات .. وكم يزداد الطين بلة حينما يذكر أحدهم أمامي أولياء الله الصالحين.
كنت دائم الإشتباك مع الوالدة والتي كانت تتبنى الطريقة التيجانية .. ويزداد الإشتباك أكثر حينما أراها تصلي..
ويوم عطلة دراسية ، جاء صديقي بلقاسم مريضا ، يطلب مني مرافقته لزيارة ولي جاء إلى قبة سيدي بن الخروبي بالقرب من حمادية ولاية تيارت..
وكانت هذه القبة معزولة تماما عن السكان ، ولا يوجد من يسكن بقربها أبدا.. وكأنها في صحراء قاحلة.. على عكس ما نراه عليها اليوم من عمران.
وحدث إشتباك حاد بيني وبين صديقي بلقاسم بخصوص هذا الشأن .. وبادلته بعبارات جارحة ، وتأسفت على ذلك لأنه كان مريضا ، وليس من الأخلاق أن أطعنه وهو في حالته المرضية ..
 وبعد جدال طويل تمكن من التغلب علي ، حيث ألزمني الحجة عن طريق إعتباري مرافقا له ، وحارسا له من مكائد الزمان .. طلب مني أن أعتبر نفسي كما لو كنت أخاه الأصغر ، أتولى حمله إلى الطبيب .. وليس من أجل الزيارة..
قبلت الموقف مكرها .. وتوجهنا .. نمشي تارة .. ونركب تارة أخرى في إحدى السيارات المارة مع الطريق إلى أن وصلنا ..
وقبل وصولنا إلى القبة بحوالي مائتي متر ، رأيت شخصا يخرج من القبة ، يلبس عباءة بيضاء تصل تحت الركبتين قليلا.. وشعره طويل يصل إلى كتفيه.. رقبته عارية سوداء من الأوساخ.. وهو مصاب بارتجاف يشبه الرقص الجنزي..
ولما إقتربنا منه رايت اللعاب يسيل منه وهو يرتجف ، لا يكاد يسيطر على توازنه الجسدي .. يبدو شاب آنذاك في حوالي سن الثلاثين أو الخامسة وثلاثين..
وقد أخذت مني الشفقة مأخذا عظيما نتيجة لظهوره بهذه الحالة المؤسفة وإيوائه لهذه القبة التي ليس بها مأكل ولا مشرب ولا أنيس .. فقلت في نفسي:
" لو كان له أولياء وأهل ، لأسعفوه إلى مستشفى الأمراض العقلية...و..."
وسرعان ما مد يده لمصافحة صديقي بلقاسم ، ثم مصافحتي ، فصافحته باطراف الأصابع فقط ، وفي كبرياء وشعور بالعظمة ، وكأنني ملك أو رئيس..
كنت أظن نفسي أنني البشر الوحيد الذي خلقه الله سبحانه وتعالى ، أمشي باهتزاز الكتفين في كبرياء.. وبحركات بطيئة.. وبنظرات توحي كأنني سلطان زماني.. فقد كان الشعور بالعظمة والكبرياء يسيطر على كل سلوكي..كشأن أي واحد مغرور بنفسه..
 مشينا قليلا لنجلسن أمام القبة ، وأنا أدير بوجهي إلى جهة أخرى في أسف شديد وكبرياء الملوك والعظماء ، وكأنني بلغت المعرفة الكاملة باسرار الحياة والكون..
ونسيت آنذاك قول الشاعر:
قل لمن يدعي في العلم فلسفة          حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
وبلغ الحوار ذروته بين ذلك الشخص وبين بلقاسم ، وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن طويل .. لكن كلامهما ليس فيه شيء يدل على المنطق.. ولا يوجد أي ترابط بين الكلمات والجمل..
يتخلل الحوار النط من فكرة لأخرى.. ومن جملة ساذجة إلى أخرى أكثر منها سذاجة ..
غير انني لاحظت شيئا يثير الإنتباه.. فقد لاحظت أن الشخص الذي جئنا لزيارته يتكلم كأنه هو صديقي بلقاسم نفسه ، أو كأنه يتقمص شخصيته.. فدخل في أعماق نفسه ، بصورة عجيبة ، وراح يتكلم عن نفسه كأنه هو نفسه بلقاسم:
" أنا إسمي بلقاسم ، أمي فلانة ، وأخي فلان وفلان ، وأختي فلانة وفلانة.. عمري كذا .. جئت من أجل زيارة الولي سيدي بن الخروبي لأنني مريض بكذا وكذا..و.. قضيت شوطا طويلا في حياتي أعاني من هذا المرض ، ولم أجد لشفائه سبيلا.. عشت سنوات طويلة بوهران ، دون عمل ، ورجعت منها خائبا ، عملت كذا وكذا .. و.. "
والمهم أنه حكى حياة بلقاسم بالحرف الواحد..حتى ظننت أن بينهما معرفة مسبقة..وليس لهذا الرجل من إطلاع على شيء ، سوى إدعاءه بعلم الغيب.. وكل هذه الملاحظة زادتني كبرياء على كبرياء..
والأمر بطبيعة الحال ، أصبح يلوح بمدلول يعجز العلم عن تفسيره ..فهو يرمي  إلى أن هذا الشخص قام بعملية تقمص حدث خلالها تحويل من شخصيته إلى شخصية الزائر ليدخل بداخل نفسه ويطلع على مكنوناتها الباطنية ، ويتكلم بإسمه الخاص دون داعي ليتكلم الزائر عن نفسه.. كشأن جميع العمليات الباطنية من طرف أولياء الله الصالحين.. ولكنه الواقع الذي يختلف كثيرا عن مدلولات العقل.. ويفلت من عقول الجهلة بالأمور الروحانية..
وبينما نحن كذلك ، إذ يحمل الريح جزء من ورقة قديمة لجريدة مرسوم عليها إمراة .. الورقة مقطعة بحيث أن القطع يمر على رقبة المرأة فيوشك على قسمتها إلى إثنين..
سقطت الورقة في حجر الرجل ، فمسك بها بيد مختلجة يتأملها وهو يقول بصوت يطبعه الجد والحنان والعطف :
" مسكينة.. آه مسكينة.. حاولوا قطع رقبتها.. مسكينة.. لم يبق لها إلا شيء قليل وتنقطع رقبتها.."
وهنا قلت أنا بدوري في نفسي:
" مسكين.. لقد بلغ به المرض لدرجة مخاطبة الاشياء الجامدة كما لو كانت كائنات حية.. مسكين.. يعاني من الهلوسة والإدراك الغير سليم للواقع.. و.."
لكن سمعته يواصل حديثه في جدية تامة:
" لا بد وأن نقوم بعلاجها .."
ووضع شيئا من لعابه على الورقة محاولا إلصاقها وهو يقول:
" بسم الله الشافي.. بسم الله الرحمن الرحيم..بسم الله..بسم الله.."
ثم نسف على الورقة بالهواء من فمه فطارت بعيدة عنه..
وكنت أبتسم في غرور وكبرياء وعناد ، وأتعجب من سذاجة هذا الرجل ومرضه..
وما أن طارت الورقة من يده ، حتى وقفت سيارة بيضاء أمامنا ، نزل منها شخصان يحاولان إدخال إمرأة إلى القبة .. ولاحظت رقبتها تتدلى على كتفيها كأنها مقطوعة.. وكأنها هي التي كانت مرسومة على قطعة الجريدة .. بل وكانها هي التي كان يقوم الرجل بعلاجها..
وسمعت الرجل يقول باعلى صوته وبلهجة صارمة كأنه متأكدا مما يقول :
" لا داعي..لا داعي لإدخالها إلى القبة ، فقد عالجناها منذ قليل بإذن الله.. أرجعوا بها إلى الدار.." 
وانصاع الرجلان للأمر، بانقياد تام.. وركبا سيارتهما ، وانصرفا وكأنهما موقنين بشفاء هذه المرأة على قول رجل لا يعرفان عنه شيئا..
أما أنا ، فقد أحسست بشعور غريب.. وبدوار.. كأن الارض تميد من تحتي.. ووقفت في ذهول.. وصديقي بلقاسم ينظر إلي ويبتسم.. كأنه إنتصر على كبريائي ..
ورايت ذلك الرجل ينظر إلي مبتسما..
لم أعد أتمالك نفسي من شدة الصدمة ، ولم أستطع إخفاء دهشتي ، لم يقف في هذه اللحظة غروري وكبريائي معي.. لقد تخليا عني.. وذهبا بعيدا..
وخيل إلي أنني لم أعد أرى ذلك الرجل في صورته التي رأيته فيها..بل وكأنه شبح نوراني ، تحيطه الأنوار من كل جانب.. 
فتقدمت إليه ، في إنكسار ، ولم يعد لدي ما أملك من تلك الأفكار الفلسفية الوهمية .. وانحنيت لأقبل رأسه وأنا أقول بصوت متأثر:
" سيدي أرجو منك أن تسامحني.."
وبدا يتكلم كلاما معقولا على غير ما عرفته لأول مرة :
" لا عليك ياإبني.. العلم واسع وطويل.. والحياة كلها أسرار.. عد إلى بيتك وراجع نفسك.. سيلهمك الله علما على علم.. "
دخل الرجل إلى القبة ، بعد أن ودعنا.. ورجعنا مع الطريق مشيا على الأقدام مسافة إثني عشر كيلومتر ، دون أن أحس بشيء.. ودون أن أعلم كيف وصلت.. وذلك ربما من شدة إنغماسي في التفكير..
كنت كلما خطوت إثنين أو ثلاثة من الخطوات ألتفت ورائي جهة القبة حتى توارت علينا.. وكنت أحس أن صديقي بلقاسم يكلمني ، لكنني لم أع له قولا..
ولما وصلت إلى الدار مباشرة ، قمت بتسخين الماء فاغتسلت .. وأقمت الشهادة .. كما قمت إلى الصلاة باول ركعة في حياتي.. وأمي تنظر إلي من بعيد في تعجب واهتمام.. ولما أكملت الصلاة ، عانقتني أمي وهي تبكي ، وبكيت معها ..
ومنذ ذلك اليوم إنغرس الإيمان في قلبي وبدأت أنظر إلى الحياة بمنظار جديد .. صنعه خلفاء الله في أرضه بأدوات مصنوعة من كلمة التوحيد ..
أجل .. إنهم أولياء الله الصالحين .. الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان..
وسألتني أمي عن هذا التغير السريع والمفاجئ.. فأخبرتها بالقصة من حذافيرها..
وقالت بعد أن سحبت تنهيدة عميقة ، أعقبتها بالإستغفار:
" لو حكيت لك أنا ما رأيته بنفسي ، لنسيت قصتك هذه مع هذا الولي الصالح.."
وراحت تحكي لي كل يوم قصة للدرجة التي جمعت فيها مجموعة كبيرة من القصص الغريبة عن العقل .. وسوف أكتب لكم كل مرة قصة جديدة بإذن الله ..
وأأكد للقارئ الكريم أن هذه القصص واقعية ، ومن صميم الواقع .. والذي حكى لي هذه القصة لا زال على قيد الحياة وعمره الآن تجاوز الستين سنة..

ليست هناك تعليقات: