لا زال العلم قاصرا قصورا تاما عن تفسير بعض الحوادث
والظواهر التي تجري في الكون والطبيعة.. ولا زالت معظم الألغاز مبهمة ، خصوصا في
ما يتعلق بظهور الأرواح على شكل أشباح مخيفة..
وما يزيد اللغز أكثر إبهام وتعقيد ، هو ظهور هذه الأشباح
على شكل أصحابها الذين قتلوا في فترة زمنية ما ، وفي مكان محدد ، بسبب تعرضهم
لجريمة قتل أو حادثة ما..
ثم يزداد اللغز أكثر في تعقيده الذي يصل لغاية العجب
والتعجب ، حينما يظهر هذا الشبح ، يروي حادثة قتله ، بإعادة بناء القصة كما حدثت ،
وروايتها على شكل فيلم سينمائي ، بأمانة كاملة في التصوير الدقيق ، والتسلسل الذي
يضمن توصيل المفهوم للمشاهد .
وكأن هذا الشبح يريد من المشاهد أن يعلم قصته المروعة
والحزينة ، ليحكيها هو بدوره ، أو لينصفه في ظلمه الذي تعرض له..
أو كأنه يريد الإنتقام ممن غدروا به عن طريق إخبار الناس
وإطلاعهم على السر الذي عجزت الناس من أهل التحقيق عن إكتشاف حقيقته.
أو كأنه يعتقد أنه ما زال حيا ، ومن حقه الرجوع إلى
الحياة ، كما يقول بذلك مجموعة من العلماء وعلى رأسهم السيد كينيث ماكول الذي يقول
بنظرية تناذر المس.
يقول السيد كينيث ماكول في نظريته تناذر المس بان
الأرواح حين ظهورها لا ترغب في إيذاء أو إزعاج البشر، بل تحاول أن تظهر نفسها
وتعلم الناس بأنها أرواح هائمة لم تمت ميتة طبيعية .. فتقوم بالظهور أمام بعض
الناس.
ويقول السيد كينيث ماكول بأن القراءة تحول دون ظهورهم
وتحسن الأمر كثيرا ، لأنها تعتبر بمثابة التهدئة والرثاء لهم.
لكن يعتبر هذا الكلام من وجهة منظور شخص ما ، يدور في
الإطار النظري ولا يمكننا التأكد منه إلا إذا دخل تحت رعاية المنهج التجريبي في
دراسة مثل هذه الأمور.. إذ ربما تظهر هذه
الأشباح لأسباب وأهداف أخرى غير معروفة ، وما زلنا لم نصل إليها بعد.
ويظهر الشبح غالبا وقت الظلام الدامس ، وفي المكان الذي
حدثت فيه جريمة القتل أو الحادثة.. ونادرا أن يحدث أمام جماعة من المشاهدين ، بل
أمام شخص منفرد وحده.
وعندما قمنا بالتحري مع كثير من المشاهدين ، الذي ظهر
عليهم الشبح في مكان ما ، أقنعنا كل منهم في أنه لم يكن على علم أبدا بأن هذا
المكان حدثت فيه حادثة مات فيها صاحبها..
والعجب هو أن هذا المشاهد يحكي القصة كما حدثت لحظة
الحادثة أو الجريمة كما لوكان حاضرا وقتها .. وهو ما يثبت صحة قوله بعيدا عن الشك
في أمر الهلوسة والأوهام.
ثم أن هذا المشاهد غالبا ما يكون في سن السبعين
والثمانين وقت تحرينا معه ، أو يكون من حجاج بيت الله الحرام ، يتمتع بسلوك أخلاقي
رفيع ، ولم يثبت عنه الكذب يوما من الايام.
وكنا لا نكتفي بالتحري معه مرة واحدة ، بل نزوره بعد شهر
ثم تطول مدة رجوعنا إليه بعد ستة شهور أو سبعة.. لكي نراقب التغير في الكلام ،
والإختلاف في الرواية ، وتلك إحدى الطرق في التحقيق من صحة أمر الراوي من كذبه..
فإذا ظهر الإختلاف في مكانه ، فإنه يكون من المحتمل
كذبه..
أما إذا لم يظهر الإختلاف في كلامه خلال المقابلات ، فإن
ذلك دليل أكيد على صحة روايته.
هذا بكل إختصار ما يتعلق بما يسمى بالمقتول..
أما في ما يتعلق بالزقوقي فهو شيء آخر ، يظهر فيه الشبح دون
أن يعبّر عن شيء ما مثل المقتول.. بل يظهر من أجل التخويف وبعث الرعب في المشاهد ،
وربما الغدر به وقتله.. كم يظهر ذلك جليا في القصة التالية.
ففي زمن الخمسينات .. كان عبد القادر بن أحمد في ريعان
شبابه ، يتيما ، فقير الحال ، ليس له حرفة أو عمل يستجير به من ضربات الجوع.. يتخبط
في المخلفات السلبية التي تركها الإستعمار الفرنسي .. ولم يجد شغلا سوى أنه يتولى
توصيل البضائع التي يكلفه بها التجار إلى السوق الذي يبعد عنه بحوالي خمسين أو
ستين كيلو متر.. يقوم بتوصيل هذه البضاعة مشيا على الأقدام لمدة يومين أو أكثر..
مقابل أجرة يتلقاها لسد رمقه ..
وكثيرا ما يكلفونه بتوصيل قطيع من الأغنام إلى السوق ،
حيث يجد أصحابها ينتظرونه هناك من أجل بيعها..
كان عبدالقادر شجاعا للدرجة التي لا يخاف فيها من اللصوص
أو قطاع الطرق أو الذئاب.. أو ربما كان مجازفا أو متهورا بسبب لقمة العيش..
و حدث ذات مرة أن كلفوه بتوصيل قطيع من الغنم من مهدية
ولاية تيارت إلى سوق الماشية بالسوقر من نفس الولاية ، واختار هذه المرة أن يرافقه
جاره السعيد في المهمة ، لأن القطيع كان كبيرا ولا يستطيع القيام بالمهمة وحده..
وفي اليوم الثاني من المشي ، بعد أن ضرب عليهم الليل
نسيجه ، وتحت ضوء القمر، حيث أخذ منهم التعب مأخذا عظيما ، وحيث كان صديقه السعيد
بعيدا عنه عند الطرف الثاني للماشية ، رأى عبدالقادر حمارا يمشي وسط الغنم.. وظن
أنه ربما لأحد سكان الدوار الذي كان يبعد عليهم بكثير.. فقرر أن يركب عليه ليريحه
من عناء المشي على الأقدام ..
ركب عبدالقادر الحمار، وبعد فترة قصيرة من الزمن ، بدأ هذا
الحمار يكبر ويعلو ظهره عن سطح الأرض.. وازداد طولا وارتفاعا لحوالي أربعة أو خمسة
أمتار.. دون توقف .. فأصابه الرعب الشديد وصاح بأعلى صوته ، ثم رمى بنفسه على
الارض حيث إنكسر من ذراعه اليسرى..
وجاء صاحبه يجري نحوه في ذهول .. ولم يعرف شيئا عن سبب
الحادث لأنه كان بعيدا عنه..
نزع السعيد عمامته وشد بها ذراع صديقه عبدالقادر ، ثم
أذن له في أذنيه لكي يساعده في التغلب على الصدمة.. مع قراءة ما تيسر من بعض السور
القصيرة للقرآن ، ومشى معه في خطوات ثقيلة وهو في حالة من فقدان وعيه ..
وكان يحمله تارة ، ويمشي معه تارة أخرى ، مع حراسة الغنم
من الذئب واللصوص ..
ويقول صديقه السعيد عند التحري معه ، بأنه لم يجد الحمار
المزعوم الذي حكى عنه عبدالقادر بل كان قد إختفى تماما.. كما أنه أخبرنا بأنه عانا
معاناة شديدة بسبب المهمة التي صارت مزدوجة بالنسبة له ..
فمن جهة يتولى التكفل بصديقه عبدالقادر وهو في حالة
غيبوبته .. ومن جهة أخرى يتولى حراسة الغنم من اللصوص أو الذئاب ، وسياقتها إلى
السوق في الوقت المطلوب ..
ووصلا إلى السوق في ساعة متأخرة.. حيث قام السعيد بإسعاف
صديقه عن طريق تقديم السكر المذاب في الماء شرابا .. ولم يرجع له وعيه إلا بعد
أربعة أيام.. حيث أخبر بعدها صديقه السعيد بالأمر الذي وقع له.
قمنا بالتحري عدة مرات مع السيد عبدالقادر وهو في سن الخامسة
والسبعين من أجل التأكد من صحة كلامه فأخبرنا بتفاصيل القصة كاملة بحيث لم يحدث
خلل أو إختلاف في صياغتها ، مما يدل على صحتها..
ولما سألنا السعيد أخبرنا بأنه لم ير الحمار إطلاقا لأنه
كان بعيدا عن صديقه عبدالقادر، بل سمع فقط تلك الصرخة التي صدرت عنه حين سقوطه
بصوت مرعب من بعيد ، ووجده ساقطا على
الأرض مكسور الذراع.. وقال بأنه تأكد من صحة القصة بسبب وجود هذا الكسر الذي يدل
بإنه سقط فعلا من أعلى..
كما أن الصوت نفسه كان يدل على أنه من أعلى للأسفل.
إن هناك الكثير من القصص التي أخذناها عن أصحابها وقت
التحريات معهم ، في أزمنة متباعدة ، من أجل التأكد من صحتها أو خطئها.. ويشير
أغلبها إلى التعجب والحيرة في هذه الظواهر التي لاتزال مجهولة.. وسنوافيكم بها في
حينها ، في القصص القادمة..
دمتم في رعاية الله وحفظه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق