التأمل هو ذلك الرجوع من سفر طويل ..
هو تلك الرحلة التي يقوم بها المتأمل من مكان بعيد ،
قطعه جريا على الأقدام لمدة سنوات طويلة..إنه العودة من الغربة..
لقد سافر طفلا ورجع وهو شاب..أو سافر شابا ورجع كهلا ..
إنه العودة من خارج الذات إلى داخلها..
من العقل إلى القلب أو البصيرة..
من التفكير إلى اللاتفكير..
ومن المحدود إلى اللامحدود..
العودة إلى شجرة الحياة بما فيها من حياة..إلى
الطبيعة..إلى الفطرة..
العودة من العقل إلى البصيرة..
وما الفرق بين العقل والبصيرة ؟
إنه يماثل الفرق بين السماء والغيوم السابحة في هذه
السماء..
فالبصيرة تماثل السماء ، والعقل بأفكاره يماثل الغيوم
السابحة في هذه السماء..
وأيهما أكبر وأوسع ؟
عندما تسافر خارج ذاتك جريا وراء متطلبات الدنيا
وملذاتها المادية فأنت تحت تأثير العقل بأفكاره المتعبة..
وعندما تسافر داخل ذاتك جريا وراء ملذات الروح فأنت تحت
قيادة البصيرة.. والبصيرة هي العقل الحقيقي للإنسان.. والحياة الحقيقية..
العقل ينتهي بمجرد ما نصرف إنتباهنا عن الشيء..
بينما البصيرة أو الإحساس يستمر تأثيرها حتى ولو صرفنا
إنتباهنا عن هذا الشيء..
العقل يؤدي إلى الإجهاد والتعب العصبي والتوتر..
والإحساس أو البصيرة فتؤدي إلى الشعور بالهدوء
والإطمئنان والراحة..
لو عرفنا فوائد البصيرة لبعنا ألف عقل من أجل شراء بصيرة
واحدة..
لكن كيف نتحصل على البصيرة ؟
كيف نصل إلى هذه الحياة السعيدة ؟
كيف نعود من هذا السفر الطويل الشاق ؟
كيف نرجع إلى أنفسنا التي فارقناها منذ زمن طويل ؟
كيف نقوم بهذه الرحلة المعاكسة.. من خارج الذات إلى
داخلها؟
وقبل أن نتعلم ذلك ، علينا أن نعلم أن الله سبحانه
وتعالى دعانا إلى إستعمال العقل في مائة وسبعون آية.. بينما دعانا لاستعمال
البصيرة في مائتين وسبعين آية.. بمعنى أن الله أعطى أهمية للبصيرة أكثر من العقل
نظرا لما فيها من فوائد للبشرية..
وانظر إلى الآية :
" فتبصروا يا أولي الألباب "
ولكي نقوم بهذه الرحلة.. علينا أولا وقبل كل شيء أن نعرف
ما هو هذا الإنسان الراحل..
هل الإنسان هو ذلك الحيوان الشهواني الذي يجري وراء
الملذات ؟
هل هو ذلك الحيوان الذي يتمتع بجسمه دون روحه ؟
فالروح هي التي تقود الجسد ..والجسد يمشي تحت قيادة هذه
الروح..
وإن إهتمينا بالجسد فنحن عندئذ إهملنا الروح.. وبالتالي
نكون قد أهملناهما معا..
أما إذا إهتمينا بالروح ،فعندئذ نكون قد إهتمينا بهما
معا..
فأنت باالروح لا بالجسم إنسان..
والجسم يحتاج منك تغذية ثمينة ومتعبة ..
أما الروح فتطلب منك تغذية بدون ثمن..لأن تغذيتها توجد
في أشعة الشمس الدافئة.. ونور القمر والنجوم.. وفي النسيم العليل.. ورائحة
الأزهار.. وزقزقة العصافير.. ودبيب النمل .. وصوت أجنحة الفراشات..وفي إخضرار
النباتات..
وكثيرا ما توجد في رذاذ المطر..وحبيبات الثلج..وقطرات
الندى..
إنها توجد في الطبيعة والإرتماء في أحضانها..
عندما نعود إلى الطبيعة.. نكون في الوقت نفسه عدنا إلى
التبصر فيها..
والعودة إلى التبصر هو ذلك التدريب النموذجي على البصيرة
نفسها..
وبالتدريب على البصيرة نكون قد عدنا إلى ذاتنا التي كانت
مفقودة..
والعودة إلى الذات هي الحياة الحقيقية..
لأن الإنسان في هذه الحالة يعيش الحياة كما لو كان
طفلا.. فيتنسم ريح البراءة التي لا توجد إلا في الأطفال..
والبراءة تعني التخلص من الشعور بالذنب..وبالتالي التخلص
من جميع الإضطرابات النفسية..
إنه الشعور بالطهارة من كل ذنب لأنه فارق دنيا الملاهي
والملذات الحيوانية..ودخل في ملذات أخرى أنبل وأقدس.. فيلتقي نظره مع نظر سيدنا
إبراهيم عند النجوم التي كان يتأملها.. ويأكل من التمر الذي أكلت منه سيدتنا مريم
عليها السلام.
أجل إنه إفترق مع الدنيا المليئة بالغش والخداع والنميمة
وقول الزور .. ليعيش كالطفل ببراءته..مع الأنبياء بنظرتهم إلى الجياة.. بتلك
النظرة المقدسة التي تسمو به لمعاشرة آثار الأنبياء والصالحين في هذه الحياة..
أيها القارئ
حدد نقطة السفر لانطلاقك وعودتك إلى الحياة..ورجوعك من
رحلة طويلة وشاقة..
قل للغربة وداعا..
قل لدنيا المنكر ألف وداع..
إبتعد عن مشاكل العصر وما فيها من متاعب وإجهاد شاق..
إرتم في أحضان الطبيعة ولو يوما واحدا في الأسبوع..
لاحظ..وشاهد..وراقب..بكل إسترخاء وبطء وهدوء..
ستجد أن الغذاء الذي كنت تدفع فيه ثمنا باهضا..تجده بلا
ثمن..
ستجد أن الأشياء التي كنت تجري وراءها دون أن تنالها ،
قد أصبحت تجري وراءك دون أن تنالك..
إذهب أنت يوما واحدا إلى الطبيعة..وستأتيك هي دائما كل
يوم إلى فراشك.. حيث تصبح تراها وأنت مغمض العينين.. وتلك هي البصيرة الثمينة التي
تحصلت عليها بلا ثمن..
بالبصيرة تصبح ترى بلا عينين..وتسمع بلا أذنين..وتتذوق
بدون لسان..وتلمس بدون يد..حيث تتولد فيك حاسة جديدة أقوى من كل الحواس..وتنال
بفضلها مالم تكتسبه من قبل حينما كنت تجري إلى حيث لا فائدة ولا رأس مال..حينما
كنت مسافرا وأنت لا تدري إلى أين..
إنك سوف تلتقي مع نفسك لأول مرة..
ستجد الغذاء الكامل لجسمك ونفسك وروحك بلا ثمن.. وبدون
أي مجهود..
ستكتسب معارف وتقنيات جديدة للتعامل مع الحياة دون أي
جهد أو عناء..
وستتعلم كيفية التخاطر(المخاطبة عن بعد)..عن طريق تنمية
البصيرة فيك..
وتتعلم التأثير على الطبيعة والبشر بدون سحر..
وستنقاد الناس إليك بالمحبة والإحترام الكامل..
أجل..كل هذا بلا ثمن..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق