مفهوم السحـر في
القـرآن الكريـم
ماهو السحر ؟
هل صحيح ما يقولونه عن مفهوم السحر وتأثيره
؟
هل هذه المفاهيم التي يروجونها في الكتب
والمجلات والجرائد والقنوات لا تتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم ؟
هل القرآن يقف مؤيدا لما يقولون أم أنه يقف
مضادا لها ؟
هل نصدق بما جاء في القرآن الكريم حول مفهوم
السحر أم نصدق ما يقوله الآخرون ؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة المكثفة .. لا بد
من الرجوع إلى القرآن الكريم كونه المصدر الوحيد للمفاهيم ولا سبيل لنا إلى مصدر
آخر على الإطلاق..
شجرة القرآن:
إن الفكرة التي يطرحها الله في القرآن ،
تكون غالبا في صورة غامضة و معقدة ومستعصية عن الفهم.. غير أن الآية التي تأتي
بعدها في سورة أخرى ، تزيد الأمر وضوحا أكثر من سابقتها ، ثم الآية الأخرى التي
توضح الأمر أكثر..
وتتعاقب الآيات بعدها توضيحا لمفهومها بصورة
تدريجية ، في شكل آية بعد أخرى ، بحيث أن كل واحدة منها تشرح المفهوم الذي قبلها ،
وتمهد لما بعدها ، وبحيث يظهر في النهاية خيط واحد يربط هذه المفاهيم بعضها ببعض
دون أن يطرأ عليه أي خلل ، ليعطي النتيجة النهائية دونما حاجة إلى رؤية الآخرين
لهذا المفهوم .. وتتوزع الآيات في القرآن الحاملة لنفس المفهوم عبر السور بشكل
إيضاحي تدريجي وبنائي بصورة تشبه الشجرة في عملية إنباتها..
فالشجرة تكون بداية عبارة عن بذرة.. ثم تنتش
هذه البذرة لتعطي جذيرا وسويقة.. يتحول الجذير في ما بعد إلى جذور تحمل الشعيرات
الجذرية والأوبار الماصة.. وتتحول السويقة إلى ساق يتفرع إلى أغصان وفروع وتخرج
الأوراق وبعدها الأزهار.. ثم الفاكهة التي تعطي الجواب
النهائي عن غموض البذرة.. لأن قصة الشجرة كلها مكتوبة في بذرتها ..[1]
وفي مفهوم السحر.. جاءت الآية في شكلها
الأعلى من التعقيد في مطروح النفاثات في العقد .. مثل البذرة تماما.. ثم
تواصلت الآيات بصورة تدريجية ومتسلسلة الواحدة بعد الأخرى ، في ثلاثة و ستون آية ،
إلى أن أعطت التعريف النهائي للسحر في آخر آية تدور حول هذا المفهوم .. تماما مثل
الشجرة التي تنطلق من البذرة إلى آخر مرحلة من إنباتها وهي الثمرة الحاملة للبذرة
نفسها التي إنطلقت منها ..
البنية الفكرية الترابطية:
وقد بدأت آيات السحر في سورة الفلق ، ثم تواصلت عبر الآيات الأخرى بشكل قصصي يتمثل في ما
دار بين سيدنا موسى وسحرة فرعون.. وتلخصت كلها في سورة " طه " وازدادت وضوحا في تعريف دقيق
للسحر في شكله النهائي، بحكم وجود ببنية فكرية ترابطية بين مختلف الأجزاء
المكونة للكل المتمثل في الآيات الطارحة لمفهوم السحر..
فنحن لا نستطيع مثلا دراسة التركيب
المورفولوجي لورقة شجرة ما إلا من خلال الشجرة نفسها .. كما لا نستطيع دراسة عملية
التركيب الضوئي في النباتات الخضراء إلا بوجود الورقة النباتية في إنتمائها الكامل
في صورتها العضوية بداخل هذه النباتات .. ولا نستطيع الدراسة الفيزيولوجية للخلية
في شكلها المنعزل عن الجسم ، من أجل معرفة علاقتها مع الخلايا الأخرى تسنيا للفهم
الفيزيولوجي.. ولا نستطيع حل معادلة رياضية من الدرجة الثانية ذات المجهولين إلا
بمعلومية معادلة أخرى تابعة لها..
فالوحدة العضوية بين مختلف أجزاء الأشياء
عموما ، ينفي إستقلاليتها وفصلها عن بعضها تماما ، بالشكل الذي ينفي إمكانية فصل
الآية عن الآيات المرافقة لها..
ومفتاح الدراسة التطبيقية حول السحر يتجلى
في مطروح:
" النفاثـات فـي العقـد "
من حيث أنها تضع إشكالية السحر في صورة
مبهمة.. يتراءى لنا من بعدها مجموعة من الآيات الأخرى الموزعة على ثلاثة وستون آية
من القرآن في شكل شجرة بأغصانها وفروعها
وأوراقها .. ثم تعود فتتلخص هذه الآيات كلها في سورة طه ، تماما كما يحدث في
الشجرة حيث تظهر الفاكهة كملخص لجميع عمليات الإنبات التي مرت بها .. إشارة بالآية
:
" سنريهـم آياتنـا فـي الآفاق وفـي
أنفسهـم أفـلا يعقلـون "
فالمنطق الذي يتجلى في الآفاق من عمليات
مختلفة .. يماثلها نفس المنطق الذي يتجلى في النفس البشرية .. وهو نفس المنطق أيضا
الذي يتجلى في الطرح القرآني للمفاهيم ..
والبناء العضوي للكون هو نفس البناء العضوي
للكائن الحي..
وهو نفس البناء العضوي للآيات الطارحة للمعنى ، والذي يجعلنا نعترف بعدم
إمكانية دراسة الظاهرة خارج حدود الظاهرة نفسها..
التأثير الحسي في الإدراك
فإشكالية السحر هي إشكالية علمية ، ولا
بد للكلمات الطارحة له من علميتها أيضا في قالبها المادي الذي لا يمكن أن
يأخذ مفاهيمه إلا من الواقع الخارجي( العالم الحسي) في إطاره الملموس
تماما كما حدث في قصة سيدنا موسى مع سحرة فرعون...
وبناء على هذا ، يترتب علينا أن نأخذ مفهوم
السحر من إطاره الملموس أيضا.. كونه يخضع لعملية الإدراك الذي هو في تجاوب مع
الحواس الخمس بعلاقة تبادلية ، إذ لا يمكننا أن ندرك شيئا ما إلا في إطار الزمان
والمكان.. كعاملين أساسييين في الإدراك الخارجي للشيء .. مما يعطي مفهوم العلاقة
بين الإنسان والحس الخارجي ( نظرية التعلم) ولا فائدة للإحساس إذا لم يكن هناك
إدراك لهذه الإحساسات.. ولا يمكن لهذا الإدراك أن يتم بدون إحساس ، وهو ما يوضح
أكثر مفهوم البنية الترابطية.. مع لزومية توفر المنطق الذي نفسر به واقع هذه
الإحساسات..
والمنطق يستمد مفاهيمه ، من التطابق
والإنسجام الذي يحدث بين المفاهيم ، دون أن يطرأ أي خلل فيها ، وهو ما يفرض منهجا
خاصا يوافق هذه الشروط .
المنهاج العلمي التجريبي لدراسة الظواهر
العلمية
ويعتمد على مجموعة من الشروط وأهمها : 1/
البرهنة المنطقية بالمقاييس العلمية التطبيقية لا على المقاييس النظرية
: إذ
ليست كل مادة هي منهاج.. بل يشترط عليها أن تكون خاضعة للتجريب .. فلدراسة عملية
الفقص مثلا في الطيور، فإنه لا بد من دراسة هذه الطيور أثناء عملية الفقص .. وإن
لم يتوفر ذلك فإن مادة العلوم البيولوجية ليست منهاجا.. ولا يمكننا البرهنة بها..
وإذا أردنا أن نبرهن في أن البئة والعوامل
المحيطة بها ، إلى جانب إعتزاز الشاعر بقوميته هي التي تؤدي إلى خلق روح رومانسية
تؤدي إلى بكاء الأطلال.. فإنه لا يمكننا أن نحيي إمرئ القيس لنرى أسباب إنشائه
لمعلقته.. وبهذا فإن الأدب ليس منهاجا..
وإن أردنا أن نثبت وجود الحتمية[2] في
الظواهر التاريخية ، كأسباب إندلاع الحرب العالمية الثانية مثلا .. بحيث أن تكرار
هذه الأسباب سوف يؤدي حتما إلى إندلاع حرب عالمية ثالثة .. فإنه يترتب علينا أن
نحيي هتلر وموسوليني.. وهي تلك الإستحالة التي تلغي خارج إطار البرهنة..
فالمنهاج هو ما يعطي تلك النتيجة التي لا
يختلف عندها إثنان ، مثل : إحتواء الفواكه على سكر الكليكوز أو سكر الفراكتوز ،
ولو حدث إختلاف فإن الحل يكمن في التجريب عن طريق مداخلة محلول فهلنك ..
-2/ الإعتماد على الإنسان الدارس
للحالة :
وهو
الإنسان الذي تتوفر لديه الآليات المنطقية ، والدقة والموضوعية في الحكم على
النتائج .. مع علمه بمجال هذه الظاهرة وتخصصه فيها .. فلا يمكننا نسأل المحامي عن
الحالات الفيزيائية للمادة .. ولا نسأل الإمام عن إمكانية إيجاد جذور معادلة من
الدرجة الاولى ذات المجهولين .. كما لا يمكننا أن نسأل القاضي عن السحر..
-3/ العينـة :
مثل تحضير بذور اللوبيا من أجل دراسة عملية
النمو النباتي للبذور ذوات الفلقتين..
-4/ المخبـر:
أي
البعـد المكانـي.. الذي نقوم فيه بدراسة الظاهرة.
-5/ الزمـن المناسـب :
أي البعد الزمني.. مثل إنتظار نمو فراخ
الحمام ، بعد عملية الفقص..من أجل دراستها.
-6/ الترابط :
ففي تعاملنا مع أوراق النبتة لا يمكننا إلا
في إطار تواجدها في هذه النبتة ، دون فصل .. لأنها جزء من الشجرة التي تمدها
بالنسغ الصاعد والنازل.. إلى جانب ما يقوم به النبات من عملية التركيب الضوئي
والنتح.. وهذا تماما مثل الفكرة في القرآن التي هي جزء من شجرة القرآن أيضا.. ولا
يمكن أبدا شرح الآية بصورة منعزلة عن الآيات المتكاملة معها..
فلو تطرقنا لشرح الآية:
" واتبعـوا مـا تتلـوا الشياطيـن
.." لشرحناها بمفهوم إتفاقية الساحر مع الشيطان..
في حين تقف لها آية البراءة ، وسورة الناس بالمرصاد حيث يتضح أن وظيفة الشيطان هي
وظيفة وسوسة تنتهي مباشرة بالفراق بين الإنسان وبين هذا الشيطان بحكم الآية :
" إنـي بـريء منـك " وهو ما يلغي جانبا نظرية إتفاق الساحر مع الشيطان ..
-7/ الفرضيـة..
وهي المبادرة التي يقوم بها الدارس من أجل
التحقق من حقيقة ما يعتقده حول الظاهرة
-8/ التجربـة ..
وهي التي تقوم أساسا على التحقيق من الفرضية
-9/ الملاحظـة..
وتقوم على إلغاء الآليات الذاتية.. والتمسك
بالموضوعية التي يطرحها واقع الشيء المدروس.
-10/الإستنتـاج :
وهو الحد الفاصل ، والتعريف النهائي للظاهرة
، والذي تم بالمشاهدة العيانية ، والملامسة العقلية والمنطقية .
المنهاج الإلاهي في دراسة الظاهرة
ولقد ظهرالمنهاج الإلاهي متطابقا تطابقا
تاما مع المنهج التجريبي في دراسة الظاهرة ..
حيث أنه لما أخبرنا
الله عن مفهوم السحر على لسان سيدنا موسى عليه السلام ، جاء الخبر متوفرا على
تطبيق هذا المنهج تطبيقا دقيقا ..
فالشرط الأول في دراسة الظاهرة العلمية
يطالب بإلغاء المقاييس المستثنية من الدراسة
والمتمثلة في الأحكام النظرية الغير خاضعة للملموسية
والتجريب ، حيث قاطعها سيدنا موسى
عليه السلام واستبدلها بمقياس موضوعي يستمد دليله بمقياس تجريبي يخضع للشاهدة
العيانية.. و تجلى ذلك في كلمة هاتوا من الآية..
" قل هاتوا
برهانكم إن كنتم صادقين "
وكلمة هاتوا تدل على الملامسة
باليد ككناية عن الملامسة العقلية..
فسيدنا موسى عليه السلام لم يكن ذلك الرجل
الذي يتأثر بالوهميات .. والغشاوة التي توضع على الأبصار.. والسرد للأقوال بما
يسمعه عن فلان الذي سمع من فلان آخر.. ولا يؤمن إلا بالحكم الذي يتواجد في معلومية
مجموع عددين لا يعطي إلا عددا واحدا بالضرورة .. عن طريق الرؤيا الواضحة ، وبعينين
غير متأثرتين بالآليات السمعية..
فيوم لقائه مع السحرة ، لم يستفسر منهم عن ماهية السحر وكيفية القيام به وتأثيراته
بصورة شفوية .. والإتيان بالدليل السمعي.. بل إختصر كل هذه المعطيات اللاشرعية ،
وحذف السمعيات من منهجه العلمي وطالبهم بالآليات البصرية والمشاهدة العيانية ..
والشرط الثاني في دراسة الظاهرة كان يطالب
بالإنسان الدارس
للحالة والذي تتوفر فيه شروط هذه الدراسة .. وهو ما كان متوفرا في شخصية سيدنا
موسى عليه السلام كنبي يتلقى التعاليم مباشرة من الله دون وسيط عن طريق
مكالمته على جبل الطور والتي ميزته عن باقي الأنبياء والمرسلين الذين تلقوا الوحي بوساطة
جبرائيل عليه السلام..
فعملية تلقي الأنبياء للوحي من السماء تمدنا
بمفهوم الوساطة التي لن تؤثر في شيء ما دامت رسالتهم رسالة تشريعية
.. أما بالنسبة لسيدنا موسى عليه السلام فكانت رسالته رسالة علمية تقوم على
شرح مفهوم السحر.. مما يستلزم خروج الفكرة من القائل الأسمى إلى المستمع مباشرة
دون وسيط.. إذ لا يجب أن يتلقى الطالب العلم بوساطة أحد بينه وبين المعلم خصوصا في
المواد العلمية ، بل يجب أن يتلقاه من المعلم مباشرة..
و تدخّل الوساطة في فهم السحر بالضبط يخلق
خلطا في الموضوع ، كالخلط الذي سقطنا فيه ، عند تعريفنا للسحر.. حيث أصبح القرآن
يمحى بالبول ويرمى في المزابل والمرحاض لأنه سحر.. وهذا بسبب تلقيينا للمفهوم
بوساطة الآخرين تلقيا أعمى ، في الوقت الذي كان يجب علينا أن نتلقاه من القرآن
مباشرة..
وتعيين موسى لدراسة هذه الظاهرة العلمية
يستلزم شروطا أساسية ، والمنطق في مقدمتها .. ولكي يتدرب موسى على المنطق
السليم ، وقوة البصيرة.. عرضه الله لنوع قاسي من التربية الجسدية والنفسية عند
فرعون في غياب أبويه الحقيقيين .. ليتلقى عاطفة مزدوجة متناقضة ..
هذه العاطفة يتخللها الشعور بانتمائه إلى
عالم الملوك..
في حين الشعور بالقسوة والصرامة في
نفس الوقت عند أكبر طاغية في العالم آنذاك ..
وهذه العاطفة المزدوجة تخلق في الإنسان شخصية
حادة في الصرامة ، تجعل صاحبها يميل إلى المواقف الإنتقادية في شكلها
اللاذع .. والشك في كل شيء .. وهو الشيء
الذي لابد و أن يتوفر في القائم بدراسة الظاهرة العلمية ..
والإنتقاد هو الذي يصنع منه جهازا
لحساب مجموع عددين لا يعطي إلا عددا واحدا بالضرورة .. ويبدو ذلك واضحا في آليات
الإستفهام المستمرة من طرف موسى.. والتمرد على الأحكام السردية مهما كان قائلها أو
راويها.. فلما صعد إلى جبل الطور ، وتكلم مع الله ، واجهه بدون خوف أو تردد كأنه
يشك في الأمر قائلا :
" رب أرن انظـر إليـك "
فكان يريد أن يصل لرؤية الله ليوقن أنه
يتكلم مع الله لا غيره .. وقد يقول بعضهم
بأن طلب موسى لكشف الحجاب كان حبالله ورؤيته
.. غير أن هذه الإجابة يفندها موقف سيدنا إبراهيم عليه السلام كموقف شك من
عملية البعث ، و يطلب من الله أن يريه كيف يحيى الموتى لكي يطمئن قلبه ، ولأنه
كان يشك في ذلك ، مصداقا للآية:
" ربـي أرن كيـف تحيـي الموتـى ، قـال
أو لـم تؤمـن ؟ قـال بلى ولكن ليطمئـن قلبي "
فإبراهيم لم يطمئن قلبه من عملية البعث ،
وطالب بالدراسة التطبيقية من أجل الإطمئنان من وراء المشاهدة العيانية تسنيا
للإستنتاج العلمي.. فأمره الله كما جاء في الآية:
" قَـالَ فَخُـذْ أَرْبَعَـةً مِّـنَ الطَّيْـرِ فَصُرْهُـنَّ إِلَيْـكَ ثُمـَّ اجْعَـلْ عَلَـى كُـلِّ
جَبَـلٍ مِّنْهُـنَّ جُـزْءاً ثُمـَّ ادْعُهُـنَّ يَأْتِينـَكَ سَعْيـاً
وَاعْلَـمْ أَنَّ اللّـهَ عَزِيـزٌ حَكِيـمٌ "
وعندما اتبع موسى العبد الصالح بغية التتلمذ
على يده.. كان ينتقد كل حركة يقوم بها في منهجه التربوي .. إلى أن أدرك موسى بدوره
عدم قدرته على الإستيعاب وانسحب من الدراسة نتيجة لتعقيد المنهجية التربوية التي
قام بها هذا العبد الصالح في عملية التعليم..
فقد كانت منهجية تعتمد على المشاهدة
العيانية والإستنتاج ، لا على سرد الوقائع والإعتماد على الأقوال الخالية من
التدابير المنطقية.. فلم يقدم له المفاهيم بصورة سردية أو نظرية ، بل فضل الجانب
التطبيقي من الموضوع .. ولكي يعلمه ، بوجود ملك يخطف كل سفينة غصبا ، قام
بإغراق سفينة بكاملها..
وعندما أراد أن يعلمه في أن الإيمان الديني
يهتز باهتزاز عواطف الأبوة أو الأمومة ، قام بإعدام شخصية كاملة ، حينما قتل
ذلك الغلام ..
وعندما أراد أن يعلمه ، الحق الشرعي لليتيم في
الميراث ، ويعلمه تاريخا تنطوي عليه سجلات الأرض ، وأن الأرض هي السجل
التاريخي الصحيح عبر الدهور والأزمنة والذي يصحح غلطات التاريخ المزيفة للواقع ، قام
بإقامة جدار كامل يريد أن ينقضّ.
وكان الخضر عليه السلام قد طلب من موسى ألا
يسأله عن شيء حتى يحين الوقت المناسب
فيخبره به.. وذلك راجع إلى تفقد عنصر الإستنتاج كشرط أساسي في دراسة
الظاهرة العلمية .. والذي يتم من طرف الطالب لا من طرف الأستاذ .. فترك له الفرصة
الكافية ليتبصر الأمر بنفسه ، ويستنتج أصل القاعدة المتواجدة في الموضوع ، ليكون
فهمها عميقا بأساس داخليته المبنية على التبصر والبصيرة لا فهما خارجيا عن طريق
معطيات الغير .. دون تطرق الأستاذ للشرح المبكر للعملية فيعدم بذلك مبادرته الخاصة
وفطرته الربانية فيه .. وجوهره الذاتي الحقيقي..
وكان العامل الزمني في المنهج الإلهي
واضحا ، حيث تم تحديده بيوم الزينة وأن
يحشر الناس ضحى ..
والمخبـر حل محله الأرض وقصر
فرعون ..
أما العيّنة فكانت تتجلى بحضور
السحرة مع النبي موسى ..
والتجربة كانت هي الإلقاء.. وهي تتضمن دائما
تلك الخلفية الحسية المتمثلة في دقة الملاحظة الموضوعية ..
والإستنتـاج : وهوالقاضي بالتعريف النهائي للسحر، وتجلى ذلك فيما
أصدره موسى من حكم حول ما لاحظه ..
فلما إلتقى الجمعان ،
وبزغت شمس الحق على رؤوس الجميع .. وكان السحرة جاهزين لبداية المعركة في جو من
الإسترهاب والتخويف .. وسيدنا موسى جاهزا مع أخيه هارون لمواجهة المعركة ضد المئات
أو الآلاف من هؤلاء السحرة .. ولما ألقى
السحرة أشياءهم ، بقيت على حالتها الطبيعية ، ولم يحدث فيها أي تغيير.. فالعصي
بقيت عصيا ، والحبال بقيت حبالا تحت واقع أمرها.. بينما تخيلها موسى والملأ
من حوله ، أنها تحولت في شكل حيات وثعابين تسعى.. وذلك ما نصت عليه الآية :
" فـإذا حبالهـم
وعصيهـم يخيـّل إليـه مـن سحرهـم أنهـا تسعـى "
ثم يظهر عنصر الإستنتاج واضحا في المنهج
الإلاهي ومطابقا تماما للمنهج التجريبي في دراسة الظاهرة العلمية حيث يقول الله
على لسان موسى :
" قـال موسـى مـا جئتتم به السحـر
" .
حيث أن موسى لما رأى تلك الحادثة التي قام
بها سحرة فرعون ، إستنتج شيئا هاما..
فلقد إستنتج بأن ما يراه أمامه ليس من
الواقع في شيء بل هو سحر تم عن طريق التخيلات.. حيث إختل الإدراك الحقيقي للواقع
وأصبح يلوح بأشياء وهمية.. وبهذا خاطبهم موسى بعبارة صريحة حيث قال بأن ما قمتم به
أيها السحرة من إلقاء لأشيائكم على الأرض فتحولت تحولا وهميا إلى حيات تسعى هو الذي
يسمى بالسحر.. بمعنى أن السحر ما هو إلا ما يتخيله الإنسان وليس له أية علاقة
بالواقع ..
وبهذا يصبح السحر
مبدئيا عبارة عن :
" عمليـة تأثيـر
حسـي فـي الإدراك.. يلـوح فـي شكـل تخيـلات وهميـة ، إنطلاقـا مـن النفـث
فـي العقـد.. و يؤدي إلى حدوث هلوسة بصرية .."
فقد سحرت العيون ،
فاختل من جرائها الإدراك الذي أصبح يرى ما لم يكن في الواقع .. وهو ما أكدته الآية
في سورة أخرى :
" فلمـا ألقـوا سحـروا أعيـن النـاس
واسترهبـوهم وجـاءوا بسحـر عظيـم"
وهكذا أصبحت عبارة :
" سحروا أعين
الناس "
دليل أكيد على أن
العيون هي التي سحرت ، بمعنى أنها أصيبت بهلوسة بصرية..
ففي السحر يحدث خلل في
حاسة الرؤيا كهلوسة بصرية .. أو حاسة السمع كهلوسة سمعية.. أو حاسة الشم كهلوسة
شمية.. أو حاسة اللمس كهلوسة حسية.. أو حاسة الذوق كهلوسة ذوقية..
ومن دلائل الهلوسة ،
الشعور بالخوف .. فهو أحد الأعراض المرافقة لها في كل حالاتها..
وإن ظهر هذا الخوف فهو دليل أكيد لا شك فيه في
أن ما حدث هو عملية هلوسة بصرية لا غير.. وذلك ما أكدته الآيات الكريمة بصورة متكررة:
" فلما أقوا
سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم "
" .. فأوجـس فـي
نفسـه خيفـة "
" موسـى قلنـا لا
تخـف إنـك أنـت الأعلـى "
" يـا موسـى إنتي
لا يخـاف لـدي المرسلـون"
وبالرغم من هذا الوضوح
الكامل الذي جاء به القرآن في مفهوم السحر.. إلا أن الناس راحوا يستمعون لما يقوله
الناس ، ويبتعدون عما جاءت به الأحكام السماوية ..
والقرآن لم يترك شيئا
إلا ذكره بالتفصيل المفصل.. ولم يغادر شيئا إلا وذكره بصورة مكررة عبر مجموعة من
الآيات ، توضيحا وتأكيدا للمعنى ، ومنعا للإلتباس والتحريف ..
ولذلك
يقول سبحانه وتعالى :
"
ما فرطنا في الكتاب من شيء "
وقد صاغ الله الخبر في قالب قصصي ،
تمثل في ما قام به سيدنا موسى عليه السلام مع سحرة فرعون.. وذلك راجع إلى أن
قراءتنا للقصة هي أشبه ما يكون إلى الدراسة التطبيقية التي يقوم بها العالم أثناء
دراسته لظاهرة ما إعتمادا على المنهج التجريبي.
ودراسة ظاهرة السحر ، تصطدم بعقبات شنيعة ..
تتمثل في عدم القدرة على التجريب ، مع تشعب النظريات المتكلمة عن السحر في
صحراء قاحلة ليس بها ماء.. بحكم الآليات المعرفية المسبقة ، وعدم توفر القواعد
الباشلارية[3] في
الموضوع ، حيث تتدخل المفاهيم الإيبستيمولوجية[4] ،
التي تمنع وصول العقل البشري إلى الحقيقة .. وعليه ، فإننا نرى أن العقل وحده لا
يمكنه الوصول إلى حقيقة السحر ، مما يقتضي الرجوع إلى الأحكام السماوية التي قدمت
مفهوم السحر في قالب قصصي يماثل تلك الدراسة التطبيقية ..
فالدارس لظاهرة السحر من وراء القرآن ، يجد
نفسه وكأنه يطبق خطوات المنهج التجريبي من خلال قراءته للقصة..
الطابع القصصي يجعل القارئ يتابع الموضوع
بشوق واهتمام مما يؤدي به إلى إستقبال الموضوع الذي يطالعه ، إستقبالا مجهزا ببصيرته
بدلا من عقله ، وما يجعله أكثر قدرة على الفهم والتركيز وتثبيت المعلومات
في ذاكرته ..
والقصة لم تكشف عن فحواها بقدر ما كشفت عن
الجانب التطبيقي في دراسة ظاهرة السحر.. حيث لم يقدم الله سبحانه
وتعالى مفهوم السحر في قالبه الشفوي .. بل جاء بقصة السحر كاملة أمام موسى والملإ
من حوله بمشاهدة عيانية ، تبعتها آلية الإستنتاج القاضية بوهمية السحر ..
بقلم رابح ميساوي
[4] - نعني بالإيستيمولوجية تلك الأحكام المسبقة
التي تبني الخصائص المعرفية للإنسان والتي تمنع نشاطه الفكري من التطور والوصول
إلى الحقيقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق