القرآن هو المصدر
الأول للعلم.. ومن أجل ذلك توعد الله بحفظه وسلامته من التحريف عبر الدهور
والأزمنة ، بحيث يكون صالحا لكل زمان ومكان.
فما هي الإجراءات والتقنيات
والطرق والأساليب التي أدرجها الله من أجل حفظ و سلامة هذا القرآن ؟
إن القرآن بطبيعة
الحال يتكون من الجوهر والعرض.
الجوهر هو الآية كما
هي وكما نزلت على النبي محمد (ص) بواسطة الوحي.
العرض هو إعطاء مفهوم
الآية وتفسيرها.. وقد يكون هذا التفسير صحيحا أو خاطئا حسب قدرة علماء التفسير في
ذلك.. وحسب الزمان والمكان الذي تواجد فيه هذا التفسير. وفي حالة ما إذا كان هذا
التفسير خاطئا أو يظهر عليه خلل منطقي لا يساعد على الإدراك الحقيقي للمفهوم.. فإن
الله سبحانه وتعالى أدرج مجموعة كبيرة من الطرق تمنع الإنحراف عن المفهوم الحقيقي ومفهوم
المعنى الذي جاءت به الآية.
ومن بين هذه الإجراءات
ما يلي :
- 1/الطرح المكرر
للآيات (تقنية توزيع المفهوم على مجموعة من السور) :
فقد جاء الطرح لأي
مفهوم في القرآن الكريم بصورة مكررة في مجموعة من الآيات وعبر مجموعة من السور المتفرقة..
فلو إنحرف التفسير عن المفهوم على مستوى الآية في سورة ما.. فإن هذا الإنحراف لن يكمل
مسيرته على مستوى الآيات المطروحة في السور الأخرى..
فقد جاءت هذه الآيات
وكأنها تحرس بعضها من الإنحراف على المسار الصحيح .
فلو تناولنا مفهوم
السحر في القرآن الكريم ، نجده قد نزل في ثلاثة وستين آية توزعت عبر السور الأخرى
في شكل شجرة سمتها العلماء بشجرة القرآن[1] وكل واحدة من هذه الآيات
تشرح الآية التي سبقتها وتمهد لما بعدها.
فقد نجد آية السحر على
مستوى سورة البقرة :
" واتبعوا ما
تتلوا الشياطين على ملك سليمان.......................خلاق"
وقد نذهب في تفسيرها
إلى أن الساحر يتفق مع الشيطان ويتحالف معه عن طريق القيام بأعمال محرمة تحوي
مخالف الشرع في مضمونها ، مقابل مساعدة الشيطان له في التأثير على الطبيعة وما
عليها..
غير أن الآية السابقة
لها أو اللاحقة ، تنفي مشروعية هذا
التفسير من الوجهة المنطقية الصادرة عن القرآن الكريم.. حيث أن الآية نفسها تشير
إلى أن الشياطين تعلم الناس السحر ولم تشر إلى هذا الإتفاق
إطلاقا.. لأن المعنى المرادف لكلمة تعلم ليست يتفق.
وتكررت كلمة التعليم خمسة
مرات في نفس الآية كدلالة على التأكيد ومنع تحريف المعنى ، وذلك في ما يلي :
" وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ
ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا
أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ
يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ
مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ
عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا
بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
كما أننا نعلم مما
علمنا القرآن الكريم أن الشيطان يسقط الإنسان في الزلل.. وما أن يسقطه في هذا
الزلل حتى يلتفت إليه قائلا :
" إني بريء منك
"
فهو يهرب منه ولا يتفق
معه طبقا لما جاءت به الآية الكريمة..
فبراءة الشيطان من
الإنسان تنفي إتفاقه معه..
ومن جهة أخرى ، فإن
الآيات السابقة واللاحقة ، تشير إلى أن السحر عبارة عن عملية خداع بصري يتم عن
طريق عدم الإدراك السليم للواقع ممثلا في عملية التخيل مصداقا للآية
الكريمة :
" فإذا حبالهم
وعصيهم يخـيّـل إليه من سحرهم أنها تسعى "
وجاءت الآية الأخرى
لتخبرنا على أن السحر عبارة عن عملية هلوسة بصرية تحدث للناظرين :
" فلما ألقوا
سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم "
فهذه الآية قامت
بحراسة الآية الأولى.. حيث أن هذه الأولى تفسر باتفاقية الساحر مع الشيطان.. في
حين أن الثانية تفسر بحدوث هلوسة بصرية تمت عن طريق التخيلات التي تمثلت في
الإدراك الغير سليم للواقع..
مع العلم أن هذه
الهلوسة البصرية يمكن إحداثها عن طريق التنويم المغناطيسي بصورة واضحة ، وملموسة ،
ولا علاقة لذلك بالشيطان على الإطلاق ، ولا علاقة لها بهذا الإتفاق الخيالي الغير
مشروع من الوجهة القرآنية ..
وكذلك الأمر بالنسبة
للفكرة الطارحة للخوف الذي حدث لسيدنا موسى عليه السلام حينما واجه سحرة فرعون..
إذ يقول سبحانه عز وجل :
" فأوجس في نفسه
خيفة "
فهي تكررت من أجل حفظ
وحماية الآية :
" موسى قلنا لا تخف
إنك أنت الأعلى "
وهي أيضا تكررت من أجل
تأكيد وحماية الآية:
" ياموسى إني لا
يخاف لدي المرسلون "
والتكرار بين الآيتين :
" وقال موسى ما
جئتم به السحر "
و
" إنما صنعوا كيد
ساحر "
فلو إنحرف أحدهم عن
المعنى المندرج في الآية الأولى ، فإنه عبثا يفعل مع الآية الثانية أو الثالثة
أو..
و ما من آية جاءت في
القرآن إلا وآلية التكرار تطبعها في نفس السورة أو في السور الأخرى..
- 2/ تقنية توظيف
الكلمات في مكانها المناسب:
فقد وضعت في القرآن
الكريم كلمات علمية بلاغية ، في مكانها المناسب ، بحيث لا يمكن إستبدالها بكلمات
أخرى.. وبحيث تعطي المفهوم الحقيقي للمعنى بدقة لا متناهية ..
فعندما أراد الله مثلا
أن يخبرنا في أن جسم النمل يتكون من زجاج ، جاءت الآية موظفة كلمة التحطيم
الذي لا يمكنه أن يعبّر إلا على الأشياء السهلة الكسر مثل الزجاج، مصداقا
للآية :
" قالت نملة يا
أيها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون "[2]
كذلك عندما ندوس بيوت
النمل بأقدامنا كما قد تفعل جنود سليمان عليه السلام ، فإنه لا يمكننا إستعمال
كلمة أخرى بدلا من كلمة " يحطمنكم " مهما بلغ إستعدادنا اللغوي والبلاغي
..
وفعلا فقد ذهب بعضهم
إلى القول بأن النملة التي تكلمت مع النبي سليمان عليه السلام ، ليست نملة كما قد
نعتقد .. وإنما هي إمرأة تسمى بالنملة وتسكن بواد يسمى بواد النمل.. لكن كلمة التحطيم
تقف ضد هذا التفسير وقوفا صارما.
ولما أراد الله أن
يخبرنا بأن مخابرات النبي سليمان عليه السلام هي من الطيور فإنه إستعمل
الكلمات التي تدل على الطير الممثل في الهدهد كما جاء في الآية :
" .. فقال أحطت
بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين "
و الإحاطة تدل على
دوران الطير في السماء ..
وحتى التكرار كان
واضحا في الكلمتين :
.. احطت.. تحط به..
فكلمة " تحط به
" جاءت تأكيدا لكلمة " أحطت " و حارسة لها.
وكذلك في نفس السورة :
" ألا يسجدوا لله
الذي يخرج الخبأ في السماوات والأرض .. "
لأن الطير ما يهمه إلا
ما هو تحت التراب وما تحت الثرى ..
وهو ما يعطي دلالة
قاطعة في أن الهدهد الذي تكلمت عليه الآية هو من الطير وليس شيء آخر كما جاءت به
بعض التفسيرات الأخرى التي لم تنتبه إلى الإعجاز البلاغي والعلمي في القرآن الكريم
..
فقد قال بعض المفسرين
بأن الطير الذي تكلم مع النبي سليمان هو إنسان يسمى بالهدهد والذي كان يستعمله هذا
النبي في مخابراته العسكرية.. لكن الكلمات البلاغية التي جاءت في هذا المضمار تنفي
هذا التفسير نفيا قاطعا..
وعندما طلب الله من
موسى التوجه إلى فرعون ، دعاه موسى أن يجعل له وزيرا من أهله ممثلا في أخيه هارون
.. وهذا إنما يدل على إصابة موسى بعقدة الدونية حيث يرى الإنسان نفسه دون
غيره من الناس.. مما يعرضه إلى عدم القدرة على مواجهة هؤلاء الناس ، وهذا طبعا
ناتج عن السلوك التربوي الذي مر به موسى إبان طفولته .. وهو نفس السبب في مناداة
الله له :
" موسى قلنا لا
تخف إنك أنت الأعلى "
وكلمة الأعلى
هي الكلمة الوحيدة التي تعبر عن عكس الدونية..
ولما أراد الله أن
يخبرنا عن يوم البعث إستعمل كلمة " زرتم " في الآية :
" ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر.."
" ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر.."
ليدلنا أن عملية الدفن
ما هي إلا زيارة مؤقتة للمقبرة ، لأنه سوف يحيا الإنسان من جديد يوم
البعث..
وهناك أمثلة كثيرة في
هذا الصدد.. ولا يمكننا إدراجها كلها.
-3/ تقنية الإزدواجية
في المعنى :
وهكذا إستخلصنا بأن كل
كلمة في القرآن جاءت في مكانها المناسب ، دون القدرة على إستبدالها بغيرها .. وهذا
الطرح ياتي كذلك بصورة إزدواجية للمعنى أي يكون معنى الآية مزدوجا في مفهومين يكمل
أحدهما الآخر دون أن يضاده ..
يكون المعنى الأول
ظاهريا ، بحيث يمكن فهمه دون جهد أو عناء..
ويكون المعنى الثاني
باطنيا ويتم إستخلاصه بعد إستخدام الآليات المنطقية التي أشار إليها القرآن
الكريم..
وعلى سبيل المثال ، في
ما جاء في سورة يوسف عن طريق الآية :
" إذ قال لأبيه
يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين "
فالمعنى الظاهري يشير
إلى أن سيدنا يوسف عليه السلام رأى عددا معلوما من الكواكب والشمس والقمر في حالة
سجود له.
أما المعنى الباطني
فيشير إلى مفهوم أعمق.. ويذهب هذا المفهوم إلى الإمكانيات اللغوية التي كان إنسان
ما قبل التاريخ يستعملها في التواصل مع غيره من البشر.. إنها أول لغة عرفها
الإنسان على وجه الأرض وهي اللغة الرمزية.
فكان الإنسان يعبر عن
الإخوة بالكواكب في رسالته إلى الغير.. والشمس والقمر بالأبوين .. والشجرة بالحياة
أو الموت.. والأزهار بالفرحة أو العرس.. و..
وهذه اللغة سكنت في
العقل الباطني لدى الإنسان وتوارثتها الأجيال جيلا بعد جيل لآلاف السنوات.. وأصبحت
تظهر في أحلام الإنسان .. ولذلك يقول سبحانه عز وجل :
" وعلم آدم
الأسماء كلها "
والأسماء هي اللغات
التي بإمكان الإنسان أن يستعملها إضافة إلى العلوم التي علمها الله لسيدنا آدم
عليه السلام[3].
وإذا غصنا في الموضوع
أكثر فأكثر ، نجد أن الله يعلمنا علم الوراثة عن طريق النظرة الباطنية
للآية .
وهناك آلاف المفاهيم
من وراء الآية المذكورة والتي يتم إستخلاصها بالإستبطان والذي نادى به أهل
الصوفية.
كما نجد أن كل آية في
القرآن تؤدي معناها الأدبي كما يراها أهل التفسير الظاهري .. لكنها في واقع
الأمر تؤدي معناها العلمي على أدق وجه.. وهو ما يعطيها إزدواجية المعنى
ومما يجعل التحريف أيضا أمرا مستحيلا..
-
4/ تقنية التعزيز
ونقصد بذلك إحاطة الآية بكلمة تمنع هذه الآية من
الإستسلام إلى التحريف عن المسار الصحيح في المعنى.. ثم إحاطة هذه الكلمة بكلمة
أخرى تعمل على سلامة وحفظ الكلمة الأولى..
وكمثال على ذلك ، نتوجه إلى الآية :
" ألا إن أولياء الله لا خوف
عليهم ولا يحزنون "
فقد كان سبحانه عز وجل يعلم الحالة التي سوف يتعرض لها
أولياءه الصالحين من إنتقادات جارحة.. وضربات مبرحة.. فحفظهم بمؤكدين إثنين[4].. يتمثل
الأول منهما في المؤكد "..ألا.." ويتمثل الثاني في المؤكد "..
إن.." .
فقد أكد الله الخبر بالمؤكدين ليقوم أحدها بحراسة وتأكيد
الآخر..
فالمؤكد الثاني "..إن.." يقوم بتقديم وتأكيد
المفهوم الكامل لأولياء الله الصالحين على هذه الصورة :
" .. إن أولياء الله الصالحين لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون "
ثم يأتي المؤكد الثاني من أجل تأكيد وحراسة الأول بهذه
الصورة :
" ألا إن أولياء الله الصاحين لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون "
وبصورة عامة ، فإنه إذا تكلمنا عن الإجراءات والأساليب
التي إستخدمها الله في محاربة التحريف لآياته وحفطها بالحفظ الذي توعد به في الآية
:
" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "
فإنه لا تكفينا هذه الصفحات القليلة ، اللهم إلا في
طرحها عبر مجلد كامل في مجموعة كبرى من الأجزاء.. وإنما ليعلم القارئ بأن في حالة
إصدار حكم ما أو تفسير لآية من الآيات ينبغي الرجوع إلى الآيات المرافقة لها في
نفس المقام نتيجة للترابط الموجود بينها.. والرجوع للكلمات الطارحة للمعنى.. بحيث
تنتهي عملية الشرح بخيط واحد يربط مفهوم كل هذه الآيات بمفهوم واحد وموحّد لا يظهر
عليه خلل في الإدراك السليم لهذا المفهوم.
ر.م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق