اعلان

الثلاثاء، 14 أبريل 2015

رجال يعملون في الخفاء





يتواجد أولياء الله الصالحين على درجات مختلفة.. فمنهم البودالة.. ومنهم الأغواث.. ومنهم السائحون..وأهل الدالة .. وأهل النوبة .. ومنهم الأولياء.. ومنهم الأقطاب..
وكل فئة منهم تزيد عن الأخرى بدرجة أعلى..
والأقطاب هم أعلى درجة من غيرهم .. فهم يمثلون القمة التي تصل إليها درجة الولاية.
وكما خلق الله أربعة من الأنبياء والمرسلين.. خلق أيضا أربعة من الأقطاب مثل سيدي عبدالقادر الجيلاني وسيدي أحمد التيجاني... ولكل واحد منهم ورد خاص به يسمى بالطريقة .. ويملك كرامات تفوق كل إعتبار.. وهذه الكرامات قد يتمتع بها حتى تلامذته وأتباعه من المؤيدين ، كما هو مشهود بذلك بمشاهدات عيانية..
الأولياء والأقطاب يعملون علنا ، على مشهد من الجميع .. بينما البودالة والأغواث والسائحون وأهل الدالة ، وأهل النوبة ، فيعملون في الخفاء لأسباب غير معروفة .. وما أن تكتشف أحدا منهم ، وتنتبه إلى ولايته ، حتى يغيّر البلد الذي يسكنه إلى بلد آخر لا يعرفه فيه أحد.. مهما كانت نتيجة هذا الرحيل..
وبهذا فإنه لا يمكننا معرفتهم أو إكتشافهم بسهولة.. فقد تجده يعمل في متجر ، أو في إدارة ، أو راعيا للغنم ، أو منظف شوارع أو غرف.. أو معلما ومربيا أو إماما..
وينطبق على المرأة ما ينطبق على الرجل.. فقد تجدها ولية صالحة دون أن تعرفها الناس.. ولا يرضيها من الدنيا إلا ما يتردد بين شفتيها من ذكر لله سبحانه وتعالى.. وما تعمله من خير من أجل المنفعة البشرية..
وربما قد تتفطن إلى معرفة إحدهم ، عندما تنتبه لحركات شفتيه الغير مستقرتين بسبب ذكره لله سبحانه وتعالى.. أو يده التي لا تخرج من جيبه أبدا بسبب مسكه للسبحة التي يردد بها ذكرالله سبحانه وتعالى.
وقد تعرفه عن طريق زهده في الدنيا وتقشفه.. ونظراته التي تنطلق منها البراءة التامة الشبيهة ببراءة الصبيان.. وعن طريق عدم إهتمامه بما يدور في المحيط الخارجي ، ومراقبة الناس.. مع اللامبلاة بمشاكل الدنيا وحسراتها..
وتجده مقتنعا بما يكسبه أو ما لا يكتسبه ، ويرضى بحبة تمر كما لو كانت وليمة كاملة..
ويسلك معظم هؤلاء سلوك الإنعزال عن الناس ، والميل إلى الخلوات ، التي يتمتعون فيها بطيب الذكر لله والصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام.
وهم يرون بان وعظ الناس وإرشادهم لا يكمن وراء مكالمتهم وإعطاء الدروس لهم فحسب ، وإنما يرون ذلك في إقتداء الناس بهم بسبب سلوكهم الحميد ، وأخلاقهم الطيبة ومبادئهم السامية والتزامهم بشرع الله الذي لا يكمن هو الآخر في شرعية الجدال والمواجهة ، وإنما يكمن في شرعية الإقتداء..
فالذي يرى وليا تتوفر فيه الصفات الحميدة ، لا يلبث أن يحبه ، ثم لا يلبث هذا الحب أن يتحول إلى الرغبة في الإقتداء ..
وهذه الطريقة في الوعظ أهم كثيرا من طريقة الحوار..
ويرى هؤلاء بأن المحيط لا يمكنه أن يؤثر فيك بقدر ما تؤثر أنت في هذا المحيط..
 فمن يرى أن السلطة تثنيه عن عزمه في العبادة وتعكر صفو روحه ، فإنه يبرر فشله في هذه العبادة ..
يستعمل أولياء الله الصالحين لغة صامتة ، في معاملتهم مع الناس ، وهذه اللغة الصامتة لها تأثير كبير على الناس أكثر من غيرها..لأنه تبعث فيهم الرغبة في الإقتداء.
من أولياء الله الصالحين من يملك القدرة على الطيران في السماء.. أو طي الارض.. أو  المشي على ماء البحر.. أو القدرة على الإختفاء.. إلى غير ذلك من الكرامات والقدرات والإمكانيات الخارقة التي أيدهم الله بها .. ومن يرى ذلك بمشاهدة عيانية لا مناص فيها ، ينقلب محبا لهم ، ويتحول هذا الحب إلى الرغبة في الإقتداء بهم من أجل مواكبتهم والوصول إلى ما وصلوا إليه من كرامات.. فيبدأ هو الآخر في الزهد في الدنيا وعمل الخير، والإبتعاد عن ملذات الدنيا ومساوئها .. ولن يجد ذلك متوفرا إلا في الإنعزال والتفرغ الكامل لعبادة الله وحده.
يقول حجة الإسلام ، وآب الصوفية ، الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله ، وأسكنه فسيح جناته ، بأنه من ليس له القدرة على إمتلاك خلوة ، فغطاءه خلوته.. إذ يمكن له أن يستعمل الغطاء على رأسه ليمكنه من إجتناب الأشياء التي من شأنها أن تلفت إنتباهه عن ذكر الله وتلهيه عن التمتع بطيب الذكر.
ولأهل الصوفية مصطلحات تتطلب جهدا كبيرا من أجل فهمها وتفهمها .. ومنها المكاشفة والتشخيص ، والباطنية ، والإيماء ، الحضور ، الحظرة ، الحلول ، الإجتياف ، الخمرة ، الغيبوبة...
ولهم مفاهيم صعبة جدا على الإدراك والإستيعاب ، ولا يمكن فهمها إلا بتطبيق تمارين ومواصفات روحية..حيث أنها تتطلب عقلا آخر كامنا في الإنسان ، ولا يعمل إلا بعد تدريبات روحية قد تستغرق وقتا ما..
في عهد غير بعيد من السنوات المنصرمة ، كان شيخ الزاوية هو الإمام ، وهو القاضي ، وهو المصلح الإجتماعي ، وهو المعلم والمربي ، وهو الطبيب في نفس الوقت..
وعندما يعرض عليه مريض ما ، فإنه يقوم بتشخيص حالته أولا تشخيصا دقيقا ، ثم يبحث له عن إسم معين من أسماء الله الحسنى الذي يوافق حالة مرضه كإسم الله (الشافي) مثلا وقد يربطه بإسم آخر من نفس الأسماء إذا لزم الأمر ذلك ، ويعين له الوقت المناسب لذكرهما ، والعدد المناسب أيضا ، لمدة معينة..
ولما تنتهي المهلة المحددة ، يعطيه أسماء أخرى ، والنتيجة بعدها الشفاء التام.
غير أن هذه الأسماء لا يمكن إختيارها بسهولة إلا من طرف شيخ عالم ، لديه معرفة كاملة ودقيقة بعلم أسماء الله الحسنى[1] وخصائصها..
ولعلاج مرض الكلب الذي ليس له دواء على الوجه الطبي إلا في الحالات المبكرة جدا ، يتطرق شيخ الزاوية إلى جرح أصبعه وإفراغ قطرة من دمه الثمين في كأس من الماء ، ويشربه المريض ، فإنه يعافى سريعا عن إعتبارات مجربة وصحيحة..
وكان يجري هذا النوع من العلاج في الزاوية التيجانية..
ولعلاج القولنج والفالج والشلل النصفي ، يقوم شيخ الزاوية بتمرير سبحته فوق جسد المريض عدة مرات فيحدث الشفاء..
وبالإختصار يعتبر شيخ الزاوية آنذاك المرجع الأساسي لحل جميع المشاكل الإجتماعية والمرضية ، سواء منها الجسدية أو النفسية..
ولا ندري هل مازال ذلك قائما بنفس المواصفات السابقة ، أم أنها رحلت مع أصحابها ، الذين كانوا لا يعرفون من الدنيا إلا السجود والكوع ، وترديد أسماء الله الحسنى.. حيث كانت كل خلية من أجسامهم موطنا لذكر الله سبحانه وتعالى..
وإذا نظرنا إلى الفئة المختفية منهم ، نجد منهم السائحين على وجه الأرض ، وكلما وجدوا مشكلا قاموا بحله بكل ما يملكون..
فقد كان سيدنا البسطامي سائرا ، وإذا به يرى واحدا يسقط من أعلى قمة الجبل ، فيقوم هذا الولي الصالح بإرجاعه إلى مكانه بواسطة عينيه.
وكانت جماعة منهم سائرين ، وأدركهم الفجر في غار جبل ، وجدوا فيه ثلاثة من الأشخاص نائمين ، ويرتجفون من شدة البرد القارص .. فوقف هؤلاء في مدخل باب الغار ، وركعوا فوقهم إلى الصباح من أجل تدفئتهم.
ومنهم من يشتري نصيبا من القمح ، ويزرعه في الخلاء من أجل أن تأكل الطير منه ، رأفة ورحمة بالحيوان.. ومنهم من يملأ أوانيا من الماء ، ويضعها في الخلاء من أجل الرفق بالحيوانات التي قد لا تجد ماء الشرب صيفا.. أو يشتري فراشا للمسجد دون أن يراه أحد فتفسد عبادته..
إن هذه الأشياء الصغيرة التي يهتمون بها ، والتي لا يظهر عليها شيء تبدو عظيمة عند هذه الفئة من الأولياء ، فتعطيهم بعد وقت طويل من المثابرة كرامات عظيمة يتحكمون بها في مقاليد الكون بإذن من الله سبحانه وتعالى.  


- يعتبر هذا العلم ، الأم الحقيقية لكل العلوم المختلفة[1]

ليست هناك تعليقات: