التفسير الشيطاني
للأمور العلمية ، أغرق سفينة نوح في قاع البحر .. وكسر عصى موسى عليه السلام .. وحرق قميص يوسف .. وعقر ناقة
صالح .. واعتبر المعجزات النبوية سحرا .. واعتبر كرامات أولياء الله الصالحين شركا.. ووصل بالمسلمين إلى
أسفل سافلين ، من فشل وإخفاق وجمود وتقوقع ..
تعمل الحواس الخمس تحت تدبير الجهاز العصبي الذي يسيطر
على كل الوظائف الحيوية في الجسم..
ينقسم الجهاز العصبي إلى قسمين رئيسيين وهما:
الجهازالعصبي المركزي.
و الجهاز العصبي
الإعاشي أو النباتي ( السامباتوي ، والباراسمباتوي ).
يتكون الجهاز العصبي المركزي من الدماغ وتوابعه ..
ومن النخاع
الشوكي ، وما يمتد منهما من مجموعة أعصاب..
وله وظيفتان :
وظيفة داخلية والأخرى خارجية .
للداخلية علاقة بالفكر والشعور والإرادة.
وللخارجية علاقة بالعالم الخارجي عن طريق الحواس الخمس ( البصر، والشم، والسمع، والذوق، واللمس ).
وكذلك يتصل
بالعالم الخارجي عن طريق عضلات الهيكل العظمي.
أعصاب الحواس الخمس الخاضعة للجهاز العصبي المركزي تؤدي
أعمالا موجهة نحو الخارج.
فالعصب البصري ماهو إلا نتوء بارز في المخ.. وعصب الشم
يتصل أيضا مباشرة بالمخ.. وكذلك عصب السمع ، وعصب الذوق ، وأعصاب اللمس التي هي منتشرة
مع كل الجلد.
و هناك علاقة قوية تربط بين الوظيفة الداخلية للجهاز
العصبي المركزي و الوظيفة الخارجية .
والتخاطر بطبيعة الحال له علاقة قوية بالجهاز العصبي.. وهو
عملية مشتركة بين الحواس الخمس ..
يمكن أن يحدث التخاطر عن طريق البصر(التخاطر المباشر) ،
كما حدث ذلك في الواقع مرارا وتكرارا..
فقد ترى شخصا يمر أمامك في لمح من البصر ثم يختفي بالرغم
من بعده عنك بمئات الأميال ..
وقد يراك أحدهم وكأنك حاضرا معهم في مأدبة عشاء بالرغم
من أنك لم تغادر منزلك إطلاقا ..
ومنهم من يرى أحدهم يطوف بالكعبة في مناسبة حج أو عمرة
دون أن يقوم بذلك في الواقع.. والأمثلة كثيرة في هذا الموضوع.. فقد حدث ذلك
للفاروق والخليفة سيدنا عمر بن الخطاب عنما كان في خطبة الجمعة حيث رأى معركة
" سارية الجبل "[1]
ماثلة أمامه ، وجيش المسلمين على وشك الإنهزام ، فنادى بأعلى صوته :
" ياسارية الجبل"
فسيدنا عمر رضي الله عنه إستقبل عملية إرسال
تمثلت في رؤيا المعركة جاثمة أمامه كما هي في واقع أمرها.. ثم قام هو بدوره بعملية
إرسال إلى قائد جيش المسلمين أنذاك..
فتميز سيدنا عمر بالقابلية للإستقبال والإرسال في نفس
الوقت.. ورؤيته للمعركة كانت تخاطرا بصريا.. وإرساله للنداء والتوجيه كان تخاطرا
سمعيا..
وعليه ، فالتخاطر يمكن أن يكون عن طريق البصر فيسمى
تخاطر بصري..
ويمكن أن يكون عن طريق السمع فيسمى تخاطر سمعي..
ويمكن أن يكون عن طريق الشم فيسمى تخاطر شمي..
ويمكن أن يكون عن طريق الذوق فيسمى تخاطر ذوقي..
ويمكن أن يكون عن طريق اللمس فيسمى تخاطر لمسي..
وبه وعليه ، يحدث التخاطر وفقا لوظيفة أحد الحواس الخمس ..
إنما كيف يتنوع التخاطر موزعا بين الحواس ، هو ما سنتطرق
إليه في أحد المواضيع القادمة..
وقد يفسر بعضهم في أن ذلك نوع من الهلوسة التي قد تكون بصرية..أو
سمعية..أو...
غير أن الهلوسة من
أي نوع كانت لها أعراض مرافقة ولا تحدث إلا
في بعض الحالات المرضية ..
وسيدنا عمر رضي الله عنه لم يكن مريضا ، بل كان القائد
الأعلى للقوات المسلحة الإسلامية ، وخليفة سيدنا وحبيبنا محمد (ص).. يتمتع بصحة
جسدية.. وبكامل قواه العقلية والنفسية .. مما يدل على بطلان عملية الهلوسة ..
كما قد يفسر البعض هذه الحالة في تمثل الشيطان مكان
الشخص الذي تراه أو تسمع صوته ..
والتفسير الشيطاني للأمور العلمية ، أغرق سفينة نوح في
قاع البحر .. وكسر عصى موسى .. وحرق قميص يوسف عليه السلام .. وعقر ناقة صالح ..
وقضى على المعجزات النبوية باعتبارها سحرا .. وقضى على كرامات أولياء الله
الصالحين باعتبارها شركا.. ووصل بالمسلمين بالشكل الذي هم عليه من فشل وإخفاق
وجمود وتقوقع ..
وتفسير الحوادث العلمية بالرجوع إلى الشيطان ، يرجع إلى
اليهود وليس للمسلمين.. ولا توجد أي علاقة تربط بين الحوادث العلمية والسحر أو
الشيطان، بدلالة ما جاء في أول آية من القرآن الكريم :
" إقرأ بسم ربك "
وبدليل أن الله سبحانه وتعالى ، لما أرسل سيدنا محمد(ص)
لهداية الخلق أجمعين ، أرسله تحت وصية الآية الكريمة :
" أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ،
وجادلهم بالتي هي أحسن "
ذلك لأن العرب هم أهل المنطق والعلم.. فطلب الله من نبيه
محمد(ص) أن يعاملهم حسب طابعهم الثقافي وتوجههم الفكري ..
أما لما أرسل سيدنا موسى عليه السلام إلى طائفة اليهود
قال له سبحانه وتعالى :
" واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية
أخرى "
ذلك لأن اليهود هم أهل السحر..فطلب الله من نبيه موسى
عليه عليه أزكى السلام في أن يعاملهم حسب طابعهم الثقافي وتوجههم الفكري..
لما كلف الخليفة سيدنا أبوبكر الصديق ، سيدنا خالد بن
الوليد رضي الله عنهما أجمعين ، بإرجاع المرتدين من العرب إلى الإسلام..قام سيدنا
خالد بحرب ضروس ضدهم من أجل هدايتهم ، لكنه تفطن إلى أن الذين يموتون ماهم إلا عرب
.. وأن الدماء العربية الشريفة هي التي تسقط في حومة القتال مما يسبب خسارة كبيرة
للإسلام.. فغير خطته إلى شكل من الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن كما دعت لذلك
الآية السابقة..
ضرب العرب خيمة لخالد أين يستقبل المفاوضين في الأمر،
وبدأ في إستقبالهم الواحد تلو الآخر ..
وبعد لحظات طوال صاح سيدنا خالد رضي الله عنه بسرعة و بأعلى صوته في وجه أحدهم
الذي كان على وشك الدخول من الباب :
" لا..لا.. أبعدوه عني..إنه خائن وغادر..أبعدوه
عني..أبعدوه عني.."
وأسرع الصحابة الكرام في القبض على ذلك الرجل ، فوجدوا
بحوزته سيفا تحت إبطه يريد أن يخدع به خالدا سيف الله المسلول..
لقد أدرك خالد بأن الرجل يخفي سيفا تحت إبطه ، ليغدر به
، بالرغم من أنه كان داخلا كبقية الآخرين ، ولم يبدو على ملامحه أو مشيته أو
تصرفاته أي شيء يدل على ما تنبأ به خالد.. فالسيف كان مخبأ تحت إبطه ولم يبدو منه
شيء..
إنها ثاني حالة في التخاطر ، ظهرت في الصحابي الجليل خال
بن الوليد ، بعد أن ظهرت للصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
وفي الحقيقة هي أول حالة تخاطر .. لأنها حدثت في خلافة
أبي بكر الصديق..ثم ظهرت في خلافة عمر بن الخطاب الذي جاء من بعده ..
وماذا سيقول أهل الشيطان في تفسيرهذه الحادثة ؟
سيقولون بدون شك ودون ريب أن شيطانا نزل على سيدنا خالد
بن الوليد أسد الله في أرضه ، وسيفه المسلول ، صاحب سيد الخلق محمد رسول الله (ص)
فأخبره في أذنه- والعياذ بالله- بأن هناك أحد يريد أن يغدر به..
خال رضي الله عنه ، الذي سماه الله " سيف الله
المسلول" يقترب منه الشيطان ليخبره في أذنه – والعياذ بالله – بأن........
إن هذا الإعتبار هو كارثة كبرى في حق الإسلام..
بينما سيقول أهل الإسلام في أن تلك كرامة من
كرامات أصحاب النبي محمد (ص) ، والبصيرة التي وهبها الله لهم ..
كرامة أو بصيرة أو تخاطر.. نفس المعنى ونفس المفهوم..
وتزكية الفعل الشيطاني
، ووضعه في مقدمة تفسير الحوادث العلمية ، يخدم بالدرجة الأولى عقيدة بني إسرائيل
التي جاءت بمعجزة سحرية حدثت وقت فرعون..
أما تزكية الفعل العلمي فإنه يخدم العقيدة الإسلامية
التي جاءت بمعجزات علمية وبلاغية جاء بها القرآن والحديث ..
وكما يحدث التخاطر في اليقضة ، يمكنه أيضا أن يحدث في
الحلم ( التخاطر الغير مباشر) ..
فقد يرى أحدهم في حلمه أن إنسان ما قد جاء ، دون أن يفكر
في ذلك مسبقا ، وإذا به يأتي في صباح الغد أو مسائه..
ويرى الآخر في حلمه أن شيء ما سيحدث في المستقبل القريب
أو البعيد ، ويحدث فعلا..
وكثيرا ما يأتي أحدهم بمواصفات غريبة عن مكان ما ، لم
يسبق له أن رآه من قبل، أو أخبره به أحد..وعند معاينته من طرف غيره فإنه يجد صحة
ما قاله بالحرف الواحد..
وقد إحتاجت الناس إلى علم يفسر هذه الأحلام ، التي تظهر
غالبا على هيئة رموز وإشارات..
ففي حلم سيدنا يوسف عليه السلام ، كما في الآية :
" إذ قال لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين "
فكانت الإحدى عشر كوكبا رمزا لإخوته أبناء سيدنا يعقوب
عليه السلام..
وكانت الشمس والقمر رمزا لأبيه وأمه..
وكان السجود دلالة على النبوة والملك..
وفي حلم الفتيان اللذان دخلا السجن مع سيدنا يوسف عليه
السلام ، حيث راى أحدهم أنه يسقي ربه خمرا ، وكان تأويل ذلك بأنه سوف يسقي ربه
خمرا بالفعل.. ولا ندري لماذا لم تظهر الرمزية في هذا الحلم ، حيث كان يدل على
الواقع مباشرة بمعنى أنه كان تخاطرا مباشرا بالرغم من حدوثه في الحلم..
بينما رأى الآخر نفسه يحمل خبزا تاكل الطير منه ، وكان
تأويل ذلك هو الصلب والموت بحيث أكلت منه الطير فعلا..
وفي هذا الحلم الأخير ظهرت الرمزية في نصف الحلم بحيث دل
الخبز على الصلب والموت .. بينما ظهرت الواقعية في النصف الثاني من الحلم ممثلة في
الطير.. وهو ما يتطلب بحثا دقيقا وفي غاية الأهمية .. وربما سيحل ذلك الرموز
المشفرة في عملية التخاطر الذي لا يزال قيد البناء والترميم.
التخاطر البصري قد يكون مباشرا عن طريق البصر..
أو قد يكون غير مباشر عن طريق الحلم ..
إضافة إلى ظهور بعض من التقاطع بين الحالتين..
وكذلك بالنسبة لبقية الحواس الأخرى ، كالسمع مثلا..أو
الذوق..أو اللمس..او الشم.
فقد يكون السمع مباشرا لحالة من الحالات في زمن ومكان
معينين.. وقد يكون غير مباشر كما يحدث في الحلم .. حيث تسمع في نومك أحدا يخبرك
بشيء ما.. وقد يتطلب ذلك تأويلا من حيث ظهوره في صفة رمزية..وقد يحدث بصورة مباشرة
في الحلم نفسه دون ظهور رمزياته ، لأسباب لا تزال مجهولة.. والبحث فيها قد يعطي
مفاتيح للدخول إلى مجهولية علم التخاطر..
ويبدو أن هذه الحواس تعمل تحت سيطرة حاسة أخرى يمكنها أن
تكون هي الحاسة السادسة ، إذا بحث فيها العلماء..
وتظهر كثيرا عند الشعراء بصورة غير معقولة تماما.. خصوصا
الشعراء أهل البدو.. فقد يخبرك في شعره عن أشياء سوف تحدث بعد ثلاثمائة أو أربع
مائة سنة .. ويحدث ذلك بالفعل ..
فمنهم من أخبرنا سنة 1900 عن ظهور الماء في أنابيب
بالجدران..
والكلام يكون في الخيوط..
والتواصل يكون عبر علب صغيرة بالجيب.. تمشي باستعمال
الناقوص.. وهو الهاتف المحمول في عصرنا هذا..
وأخبار العالم في قصعة تتلقى المعلومات من قمر مصنوع بيد
الإنسان..
ظهور جزارة الدجاج..
والجدران مبنية بالزجاج..
إلى آخره..
تكلم هذا الشاعر كثيرا في أمور مستقبلية خارقة ، لم تكن معروفة في ذلك
الوقت ولا يمكن أبدا أن يتنبأ بها الإنسان ، في وقت لا يزال أهله يستعملون الجمال
والبعير في سفرهم.. والقربة للماء.. والحطب للنار.. والخيمات للسكن.. و..
ولم يفهمه قومه في ذلك الوقت ، ولم يفقهوا قولا مما كان يقول ، حتى وقتنا
الحالي ، إذ تمكن الناس من إيجاد قصيدته التي تزيد عن مائتي بيت.. وبدأوا في
قراءتها من جديد..
إسم الشاعر الحاج عيسى من ولاية الأغواط .. ولد في النصف الثاني من سنة
1800 وتوفي في ما بعد 1900 بالتقريب[2]..
ولحد الآن نكون قد تكلمنا عن أفكار في التخاطر، نلخصها في ما يلي :
يحدث تواصل غير عادي بين إنسان وآخر ، دون أي أداة أو جهاز
لهذا التواصل..
يسمى هذا التواصل بعملية التخاطر..
يتميز التخاطر بفكرتين أساسيتين هما : الإرسال و الإستقبال.
تصدر الفكرة عن شخص ما تجاه شخص
آخر ويسمى ذلك بعملية الإرسال..
ويستقبل الإنسان الفكرة من الشخص الذي قام بعملية الإرسال ويسمى ذلك بعملية
الإستقبال..
قد يحدث هذا التخاطر بصورة متعمدة بين شخصين ، وذلك نادر
الحدوث تماما أو شبه معدوم ، نظرا في أن علم التخاطر لا يزال مجهولا تماما ، حيث
تعتقد الأغلبية الساحقة من الناس الجهلة بأنه ضرب من الخيال والوهم..
لكن مما لا شك فيه أنه يحدث بصورة تلقائية أو لا إرادية..حيث
يكون الإنسان على غير علم بأنه قام بعملية إرسال..ولا يزال سبب ذلك مجهولا.. ومما
لا شك فيه أيضا أن التخاطر يخضع لظروف معينة تتميز بالقابلية لكل من الإرسال والإستقبال..
ويتوجب علينا عندئذ دراسة الظروف الشخصية للمرسل في زمان ومكان ما .. وأيضا الظروف
الشخصية المحيطة بمن قام بعملية الإستقبال طبقا لذلك الزمن والمكان نفسه..
كما يوجد تخاطر مباشر ، كالذي يحدث بصورة مباشرة أثناء
اليقضة.. وتخاطر غير مباشر كما يحدث أثناء الحلم..
ويحدث هذا التخاطر وفقا للوظيفة الحسية وموزعا بين أعضاء الحواس الخمس..
فيكون هذا التخاطر بصريا ، أو سمعيا، أو لمسيا..أو....
يتميز التخاطر الغير مباشر ، بظهور رموز تجبرنا على عملية التفسير
والتأويل..فيسمى عندئذ بالتخاطر الغير مباشر السالب..
كما يتميز بظهوره كما لو كان في الواقع ، ويسمى عندئذ بالتخاطر الغير
مباشر الموجب..
وتوجد حالات تقاطع بين هذه العمليات جميعا ، مما
سيفتح لنا ثغرة لدراسة هذه الملاحظات التي سوف تمكننا من إيجاد المفاتيح العامة
التي تكشف الغطاء عن لغز التخاطر ومبهوميته ، وتمكننا في نفس الوقت ن تطويره
بالشكل الذي يخدم بني الإنسان مستقبلا تخلصا من التواصل التكنولوجي وأثره السيء
على البئة والإنسان والكون .