اعلان

الأحد، 26 يوليو 2015

وكل شيء أحصيناه في إمام مبين




 العمليات الذهنية اليومية ، تحدث لنا مرارا وتكرارا ، عبر مدار السنة.. وتفاجئنا بغيبياتها أو تظاهراتها الخارقة وألغازها المبهمة .. دون أن نعرف لها سببا..أو نعرف لها أسبابا.. ولا نستجيب لها إلا باستجابة التجاهل أو اللامبالاة وعدم الإهتمام.
ولا زال العلم بطبيعة الحال يحاول أن يكشف الغطاء عن هذه الألغاز المبهمة ، والطلاسم المعقدة ، دون أن يهتد لشيء من أسرار هذه الحوادث المجهولة الأسباب..
غير أننا لا نستطيع القول في أن العلم فشل في محاولاته ، نتيجة لقصوره وإخفاقه في المعرفة .. لكنه فشل نتيجة لتدخل العقليات البدائية للإنسان باعتبارها عائق إيبستيمولوجي خطير على المعرفة العلمية ، وعلى النشاط المعرفي للإنسان في جميع المجالات.
فحينما يكون الإنسان لديه تفسير مسبق لحادثة من الحوادث ، فإنه يظل عبدا لهذا التفسير دون أن يسمح لنفسه بتلقي تفسير آخر، ظنا منه بأنه وصل إلى الحقيقة المطلقة ، في حين أن هذا التفسير ما هو إلا سراب يحسبه الظمآن ماء..
وعقليتنا البدائية ترد الحوادث الغريبة  إلى الصدفة التي ليس لها أي قانون يضبطها..
ونحن بطبيعة الحال في معرفتنا وثقافتنا لا نملك سوى كتابا صغيرا يحوي صفحة واحدة مكتوب عليه أربعة كلمات فقط :
الصدفة..
الجن..
السحر..
لقرين..ا
فعقولنا لا زالت لم تتحرر من عقلية الإنسان البدائي ..
هذه المفاهيم الأربعة سيطرت على عقولنا فأصبحنا عنوانا كبيرا في حديقة الجهل.. بعد أن كنا في القرون الماضية نتولى صدارة العلم..
في حين أن هذه العوامل الأربعة يستجيب لها العلم إستجابة الرفض ، ولا تختلف عن إستجابة القرآن الكريم ، بين أمة خصها الله بكلمة " إقرأ " في أول مخاطبة من هذا القرآن..
فأمة " إقرأ " تملك آلاف المجلدات في العلم وليس صفحة واحدة مكتوب عليها أربعة كلمات وهمية..
ويحق لنا نعترف إلى جانب السيد رئيس الأطباء أبو علي بن سينا وزملائه من العلماء ، في أنه لا مكان للصدفة في العلم ، حيث يقول رحمه الله في كتابه الإشارات والتنبيهات
" لو أمكن للإنسان أن يعرف ما في الكون جميعا وعناصره وطبائعه وتمكن من معرفة العلاقات بين الظواهر لتمكن في نفس الوقت من معرفة ما يحدث في الكون مستقبلا بما فيه الإنسان.. "
قالها ابن سينا في الوقت الذي كان فيه علماء الإسلام لا يزالوا عاكفين على تفسير الظواهر العلمية بالشيطان . وقد هز الأمة الإسلامية آنذاك هزة عنيفة بهذا التصريح جعلت السلطان محمود يحكم عليه بالإعدام .. لكن شجاعته وآراءه الحرة وفهمه الإسلام بشكله الصحيح.. وفهمه للعلم بشكل يجعل الفصل بينه وبين الدين أمرا مستحيلا.. جعلته يضرب الإفرنج ضربة عنيفة إصطكت منها أسنانهم حينما أعلن هذا المسلم أن الظواهر العلمية متسلسة مع بعضها البعض بالشكل الذي يجعلنا نعترف بأن توفر الشروط الواحدة يؤدي إلى حدوث الظاهرة وأن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج.. وأن الظواهر العلمية مهما تعقدت مسالكها فإنها تخضع لمفهوم الحتمية...
العلية والحتمية والسببية والمنطقية و.. هي الأسلحة أو المفاتيح التي حملها العرب آنذاك وبرهنوا للعالم على أن الدين الإسلامي هو دين علم ، لا دين شيطان وشعوذة .
ولم يعرف الإفرنج هذه الحقائق إلا بعد أن تعلمها عن المسلمين..
فالأحداث تجري وراء سلسلة من الأسباب إذا ما توفرت أدت إلى حدوث الظاهرة دون تدخل الشيطان في ذلك تماما.. مثل المعادلات الكيميائية.. فإضافة الأوكسوجين إلى الأيدروجين يعطي ماء بالضرورة.. وواضح جدا أن الشيطان لم يتدخل في هذه العملية على الإطلاق .
إن عدم القدرة على دراسة الظاهرة دراسة موضوعية تستند على المنهج التجريبى ..  يكمن وراء عدم القدرة على التطبيق وإجراء التجربة ، بسبب إنتهاء المهمة بالفشل نظرا لعدم القدرة على معرفة مجاهيلها..
وبالمثل مشى الخوارزمي، وأبوبكر الرازي،والحسن بن الهيثم، وابن الطفيل، ومجموعة كبرى من علماء ذلك العصر ، حيث سيطروا على العالم آنذاك سيطرة علمية كاملة في جميع المجالات المعرفية..
ولم يكن بحث هؤلاء العلماء في الجانب المادي من الكون والحياة فحسب ، بل كانوا علماء للروح أيضا ، حيث بحثوا في الجوانب المختلفة والمختفية فيها ..
فكان الواحد منهم طبيبا مثلا ، لكنه كان في نفس الوقت فقيها ذكيا ماهرا بالدرجة التي تساعده حتى على إصدار الفتوى في المسائل الفقهية المعقدة.. ومع ذلك لم يثنيهم عن عزمهم الفهم الخاطئ للآية:
" وسألونك عن الروح، فقل الروح من أمر ربي ، وما أتيتم من العلم إلا قليلا "
وعلموا من خلال الشرح الصحيح للآية بأن الروح من أمر ربي، مثل كليات الأشياء من أمر ربي أيضا.. فالجسد من أمر ربي ومع ذلك بحثت فيه العلماء.. والكون أيضا من أمر ربي لكنه لم يسلم من غزو العلماء له..
بمعنى أن الآية كانت تصدر حكما عاما وليس خاصا.. مما يحطم القيد الذي يمنعنا من البحث..
وراح العلماء يصولون ويجولون في علم الروح.. فتوصل سيدنا أبوحامد الغزالي رحمه الله إلى ما لم يتسع ذكره في هذا المقام.. وعلماء الصوفية من بعده.. ثم توصل علماء الإفرنج إلى نتائج باهرة في اليوغا والكارما والتأمل ، ومنه إلى فكرة الخروج عن الجسد أو ما يسمى بالإسقاط النجمي..
وما دامت الصدفة مرفوضة من الساحة العلمية ، فإنها مرفوضة أيضا من القرآن الكريم..
فقد جاءت الكثير من الآيات لتنص على أن كل شيء في الكون مدبر تدبيرا كاملا وفقا لحسابات دقيقة ، وتقدير مضبوط ضبطا كميا وكيفيا..
ومن بين هذه الآيات :
" وكل شيء أحصيناه في إمام مبين "
وفي آية أخرى :
" وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا ويعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين "
والآية :
" وكل شيء عنده بمقدار"
وهكذا فقد تكاثفت الآيات في القرآن الكريم مبرهنة بأنه لا مجال للصدفة ، بل كل شيء مدروس دراسة إلهية ومقدرة تقديرا كاملا ، حتى أن الورقة التي تسقط من الشجرة مقدر مسارها تقديرا كاملا وفق حسابات دقيقة.
وهو ما يجعلنا ننتبه إلى أن هناك شيء لم نعطيه إهتماما وفقا لما جاء في القرآن الكريم.. إنه التخاطر.

ليست هناك تعليقات: