ما أن تمشي على الطريق بغية الوصول إلى مكان ما ، حتى تتفرع أمامك مجموعة
من الطرق الأخرى والشعاب والمسالك ، فيصعب عليك حينئذ إختيار الطريق المناسب الذي
يوصلك إلى المكان المطلوب..
وما أن تشرع في التفكير عن السبل التي تعلمك حسن الإختيار للباب
المناسب لاكتساب المعرفة ، حتى تتشعب أمامك مجموعة من الأبواب والافكار المختلفة
مع بعضها البعض ، بحيث يتراءى لك أن كل فكرة منها صحيحة ، بالرغم من تضادها أو تناقضها
مع بعضها .. و يصعب عندئذ تحديد الفكرة الأصح منهم..
وكلما ناقشت فكرة ما على العموم ، تظهر مختلطة مع أفكار أخرى وملتصقة
بها ، فتسلّط عليك جانبا من الإرتياب في إتخاذ الفكر الصحيح..
وما أن تقول نعم.. حتى تسمع ألف صوت ينادي بكلمة لا..
ذلك هو الصراع الناجم بين المتضادات والمتناقضات من الأفكار..
بين نعم ولا..
بين نكون أو لا نكون..
نحب أو نبغض ..
بين القبول أوالرفض..
بين الحب والعدوان..
هذا التناقض والتضاد ينتج عنه صعوبة القدرة على الإختيار..
وهو ما يعطي لنا مفهوم الوجه السطحي من الصراع الذي يبدأ مباشرة من
القطب الأمومي أو الأبوي ..
فالذكر من الأطفال و مع بداية نمو الأنا الإجتماعي لديه ، يبدأ في
تعلم شيئين متضادين مع بعضهما تمام التضاد.. سيتعلم حب أمه لكنه في نفس الوقت
يتعلم النفور والبغض والكراهية لأبيه[1]..
ومن هنا يظهر الحب والبغض في آن واحد..
والبنت تحب أبيها وتبدأ في نفس الوقت تتوجه مشاعرها نحو بغض أمها
والعدوان لها[2]..
وقد يأمر الآب إبنه بالذهاب للسوق مثلا ، وشراء بعض المستلزمات.. في
الوقت الذي تأمره أمه بمراجعة دروسه ،إستعدادا للإختبارات..
وهنا يصعب على الطفل إختيار الأمر الذي سيرضخ له..
هل ينفذ أمر أبيه مع علمه بصلابة رأيه..
أم ينفذ أمر أمه مع علمه بحنانها وعطفها عليه..
سيعمد هذا الطفل ربما ، إلى تنفيذ أمر أبيه والذهاب إلى السوق.. في
نفس الوقت الذي يأخذ فيه كراسه ليراجع في الطريق..
ومن هنا يكون قد نفذ الأمرين في آن واحد..
هذا إذا كان في مستوى سني مناسب لإيجاد الحلول..
أما إذا كان دون ذلك ، فإن كل من الأمرين المتضادين يظلان يدوران في
رأسه ، إضافة إلى بعض الأواملر الأخرى المتضادة.. وسيواجه مستقبلا أزمة نفسية قد
تكون سكيزوفرينيا مثلا..[3]
وعندما يصل الطفل إلى مستوى معين من العمر ، يظهر الصراع في شكله
الواضح تماما.. حينما تبدأ تلك الرغبة في التخلص من السلطة الأبوية ، حيث تبدأ
حالة التمرد واضحة مقترنة مع رفض أوامر الأبوين والمواجهة العدوانية لهما ..
وفي نفس الوقت يشعر الطفل بأنه لا زال في حاجة ماسة إلى إهتمام أبويه
به ، وحنانهما عليه ، وحبهما له..
ومن هنا تبدأ المشكلة.. ويبدأ الصراع واضحا..
صراع بين الرغبة في التخلص من السلطة الأبوية...وبين الحاجة الماسة
إليهما..
ويتعذر وجود الحل عندئذ في كثير من الحالات ..
وتعذر وجود الحل يؤدي إلى تلك الإضطرابات النفسية والإضطرابات
الجسدية بعيدا تمام البعد عما يسمى بالميكروب..
وقد يبدأ الصراع بادئ ذي بدئ بسبب حدوث إثارة خارجية .. إثارة
من الوسط الخارجي..
هذه الإثارة تؤدي إلى نشوب الصراع..
مثل شعور الطفل باهتمام أبويه بولادة طفل جديد لهما..أو الشعور
بتفضيل أحد إخوته عليه.. وهو ما يحدث غالبا عند الأنثى بصفة عامة..
هذا الشعور الجديد عبارة عن إثارة خارجية..
وعند الكبار قد تحدث الإثارة على شكل إخفاق في العمل..أو الحب..أو في
الحياة الزوجية.. الإمتحانات...
وما أن تحدث الإثارة حتى يحدث الصراع تابعا لها في وقت واحد..
الصراع بطبيعة الحال يؤدي إلى قلق الأنا.. ويدفع به إلى لزومية إيجاد
الحل..
الحل الذي يقوم به الأنا تجاه ذلك الوضع الصراعي يسمى بميكانيزم
الدفاع..أو الآليات الدفاعية..
......................................................................................................
- أبو سفيان غادر بالتجارة شرقا مبتعدا عن آبار بدر
- إذن القافلة في أمان..أرى ألا نحاربهم..
- لا نحارب ؟
- ولماذا نشب على قومنا حربا قد تظل مشتعلة طيلة 40 سنة ؟
- تعني حرب الولد و أبيه.. فولدك حذيفة معهم.. أنا أقول بالحرب ..
وهذا الصابئ يجب أن يجلد.. ولدك الحقيقي هو الوليد..
......................................................................................................
لقد لاحظنا أن الصراع في هذه الحالة يوجد في فكرتين متضادتين :
- الرغبة في الحرب إنتقاما من الصابئين(المسلمين)
- عدم لزومية الحرب لأن التجارة في أمان..
ثم تدخل الحسم واتخاذ القرار السياسي بعنف..
هذا القرار السياسي هو ما يقربنا نوعا ما من مفهوم ميكانيزمات
الدفاع..
إلا أن هذه الميكانيزمات قد تتخذ في كثير من الحالات طرقا ملتوية
يصعب تحديدها..
وإذا فشلت هذه الميكانيزمات ، فإن الإضطراب النفسي والجسدي يدخل من
بابه الواسع .. على شكل حرب صعب..
......................................................................................................
- يامحمد أخرج إلينا رجالك..
من أنتم ؟
يا محمد أخرج إلينا نظرائنا من قومنا..
- عبيدة..وأنا(حمزة).. وعلي..
هل نحن نظرائكم ؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله..
......................................................................................................
عندما تحدث الإثارة ، فإن ذلك يؤدي إلى نشوب الصراع..
الصراع يؤدي إلى قلق الأنا..
الأنا يكون ملزما باتخاذ موقف معين..
هذا الموقف يسمى بميكانيزمات الدفاع أو يسمى بآليات الدفاع..
هذه الميكانيزمات تبحث عن طريقة تمكن من إيجاد التوافق بين الطرفين
المتصارعين..
أي إيجاد التوافق بين العقل الواعي والعقل الباطني..
......................................................................................................
أقبل مفاوض آخر..
- محمد..عرضنا عليك شروطا للصلح من قبل
ما هذا بسم الله الرحمن الرحيم.. لا أعرف هذا.. قل باسمك اللهم..
من محمد رسول الله.. لو شهدت أنك رسول الله..لم أقاتلك..
أكتب : من محمد بن عبدالله إلى ..
أليس هذا هو الأفضل..؟
......................................................................................................
لقد لاحظنا كيفية إيجاد التوافق أو التسوية بين الأطراف المتنازعة..
وهي تماما التسوية التي تحدث بين العقل الواعي والعقل الباطني التي
يقوم بها الأنا عن طريق أحد ميكانيزمات الدفاع..
وعندما تفشل هذه الميكانيزمات في الحل..
فإن ذلك يؤدي إلى الأمراض النفسية والجسدية..
تماما مثل الحرب..
......................................................................................................
- يامحمد لسنا نحن الذين نقضوا عهد الحديبية.. بل نفر من قومنا هم
الذين..
هل من يسمعني ؟ ياأبابكر..ياعمر..ياعثمان..ياعلي..
أنا سيد مكة..
- سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه : لأنك لم تحفظ عهدا ولا
أمانة..
بعد فترة..
المسلمون قادمون لفتح مكة..
- سنصبح عشرة آلاف قبل الغروب..
- جيوش المسلمين يدخلون مكة من أبوابها الأربعة..
- من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..
......................................................................................................
عندما يفشل منطق الحوار يبدأ منطق الحرب..
عندما تفشل ميكانيزمات الدفاع تبدأ الإستجابة النفسية والجسدية تلوح
بالحرب هي أيضا على شكل إضطراب مرضي ..
الفتاة العربية المسلمة ترى نفسها ملزمة على البقاء في البيت إستجابة
للآية :
" يا نساء النبي قرن في بيوتكن "
وفي نفس الوقت ترى نفسها بأنه لا بد من الخروج من أجل العلم مثلا ،
إستجابة للآية :
" إقرأ بسم ربك.."
إنه الصراع الي يتطلب الحل العاجل..
الطرف الأول من الصراع يطالب بمكوثها في البيت..
الطرف الثاني من الصراع يتطلب الخروج إلى طلب العلم..
وهو ما يتطلب ميكانيزما دفاعيا شرعيا..
وتجد الحل سريعا في الشريعة..
تخرج محجبة..
فالحجاب يرضي الطرف الأول من الصراع والطرف الثاني..
إنها بارتدائها للحجاب كأنها ماكثة في البيت ، وقد أرضت الطرف الأول
من الصراع..
وخرجت لطلب العلم أو العمل فأرضت الطرف الثاني من هذا الصراع..
هذا ما يسمى بالتوافق والتسوية التي يسعى إليها الأنا عندما يحدث
الإشتباك بين العقل الواعي والعقل الباطني..
وفي البنت الرافضة لأنوثتها آيات لأولي الألباب..
فأعضاءها التناسلية تذكرها بأنها أنثى .. وهو ما يشكل الطرف الأول من
الصراع..
وهي ترفض هذه الأنوثة وتريد أن تكون رجلا.. وهذا يشكل الطرف الثاني
من الصراع..
ولا بد للأنا من إتخاذ موقف..وإيجاد الحل عن طريق التوافق والتسوية..
ستلبس هذه البنت لباس الرجال ، وتتصرف كما لو كانت ذكرا..
فهي في هذه الحالة أنثى ورجل في نفس الوقت..
وهو ما نلاحظه في بعض الحالات الإكلينيكية ، والتي توضع تحت عنوان
الإنحرافات الجنسية أو الشذوذ الجنسي..[4]
وفي الصفحة القادمة سوف نتطرق إلى الإستجابات التي يتخذه الأنا في
مواجهة الأوضاع الصراعية .. والتي سميناها بميكانيزمات الدفاع.. وعددها يزيد عن
الستين وضعية وتشكل المحور الأساسي في تعاليم مدرسة التحليل النفسي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق