ينقسم الناس من حيث
ثقافتهم إلى قسمين :
- قسم يكتسب ثقافته ومفاهيمه
العامة من وراء ثقافة الغير ، حيث يأخذ بأقوالهم ، وآرائهم ووجهة نظرهم .. فيصدق
بكل ما يقولون .. ويتبع آثارهم بالبحث عنهم في الكتب والمجلات والجرائد والقنوات
المختلفة وفي مواقع الأنترنيت ..
إنه يعتمد على أذنيه
في إكتساب المعرفة ، دون أن يعتمد على عينيه..
وهو بهذه الحالة يكون
تابعا تبعية كلية إلى ما يقوله غيره ، دون أن يكون لمبادرته الذاتية أي دخل في
الموضوع ..
وهو يرى أن تلك
المطابقة التي تحدث بين تصوره للفكرة .. وبين الكلام الذي جاء به الغير ، حقيقة
مطلقة لا يمكن طعنها.. لأن المعرفة أو الحقيقة في نظره هي ذلك التطابق الذي يحدث
بين الفكرة والتصور..
في حين أن المطلق لا
يكمن وراء تلك المطابقة العقلية.. نتيجة لغياب عنصر الواقعية المنبثق عن التجريب..
لأن فكر الإنسان شيء والواقع شيء آخر.
عندما نؤمن بفكرة ما ،
فإن تصورنا لها يكون قد هيأ الأرضية الصالحة للإقتناع بها .. وعند ذلك نتعرض
للصراع دون أن ندري .. الصراع بين ما نأخذه من الواقع الخارجي عن طريق آراء الناس
وأفكارهم .. وبين إحساسنا بهذه الأفكار والآراء.. والغلبة في الصراع ترجع بطبيعة
الحال إلى إلى ما ينطلق من إحساسنا الداخلي .. بينما نحن في حاجة إلى تغليب ما
يأتينا من الواقع الخارجي ، لا من الواقع الداخلي ، مما يلزمنا إلى إتخاذ موقف
يساعدنا على حل أزمة هذا الصراع ..
و لا نجد هذا الحل إلا
في البحث عن المؤيدين لهذه الفكرة ، وسنجد لا محالة طائفتين .. إحداهما مؤيدة..
والأخرى رافضة .. وهنا تدخل ذايتنا من الباب الواسع ، حيث نختار حتما ما يوافق
تصورنا للفكرة.. وعند ذلك يصبح كل ما نسمعه من هؤلاء صحيحا ..
وسنرى أن كل كلمة يقولونها
دليلا ، وكل حركة صادرة منهم هي دليل أيضا.. خصوصا إذا أخذ المقاييس الغيرعلمية والغير
خاضعة للتجريب كوسيلة للبرهنة..
وما يرجع ذلك إلا إلى
تلك المطابقة التي تحدث بين ما نتصوره وبين ما نستمع إليه ، أو بين ما نقرأه مع
تدخل ميكانيزم ذاتيتنا..
- قسم يعتمد على رؤيته
الداخلية للموضوع ، النابعة من قرارة ذاته ، عن طريق إحساسه الداخلي أو بصيرته ،
وعن طريق الفطرة التي خلقه الله عليها.. خالية تماما من أحكام الغير ، وتعتمد على
مبادرته الخاصة.
إنه يختلف عن صاحبه
الأول الذي يستمع لأحكام الغير ..
يختلف عنه باستماعه
إلى جوهره الميتافيزيقي الموجود في نفسه ، وباتباعه إلى تلك الفطرة الإلهية فيه ..
كما يعتمد على أبحاثه الخاصة في الموضوع ، والنابعة من قرارة ذاته ، طبقا لحديثه
(ص) :
" إستفتوا أنفسكم
"
وتتجلى مهمة هذا الحديث
الشريف في مهمة طبية قبل كل شيء.. ذلك لأن هناك قاعدة طبية أساسية تخبرنا في أن
الإنسان إذا قلد الآخرين في أقوالهم وأفعالهم ، فقد شخصيته.. وفقدان الشخصية يعني
فقدان الأنا ، أي فقدان الجوهر الروحي للإنسان.. وهو بهذه الحال يكون قد أعدم نفسه
إعداما كاملا دون محاكمة.
فالأنا يطالبه بمسك
زمام الأمور بنفسه ، لا بنفس الآخرين ، وبمواجهة الحياة بواقعه النفسي الذي فطره
الله عليه ، والواقع بطبيعة الحال أغنى من النظرية[1]..
غير أن أناه قد ذاب في
أنا الآخرين بأحكامهم التي قد تكون صحيحة ، وقد تكون خاطئة ..
والنظرة البشرية لشيء
ما تختلف من شخص لآخر مهما كانت معلوماته واستعداده العلمي .. فهي تقف وراء الخلفية
الفكرية التي يتميز بها..
فمثلا ، النظرة التي
ينظرها عالم النبات إلى الشجرة غير النظرة التي ينظرها الفلاح.. وغير النظرة التي
ينظرها الشاعر.. وغير النظرة التي ينظرها الرسام...وغير النظرة التي ينظرها
الفيلسوف.. وغير النظرة التي ينظرها الساحر..
فعالم النبات لا يرى
من هذه الشجرة إلا تلك الأوراق التي تقوم بعملية التركيب الضوئي.. وتلك الفروع
التي تقوم بنقل النسغ الصاعد والنسغ النازل..والجذور التي تقوم بعملية الإمتصاص
للمواد المعدنية والأملاح عن طريق الشعيرات الجذرية وما عليها من أوبار ماصة..
والرؤية الإجمالية لتلك الشجرة بين النباتات والأشجارالأخرى وحتى بين الحيوانات ،
من حيث المشابهة المورفولوجية الموحية بعملية التطور..
أما الفلاح .. فما يرى
منها إلا ما تحتاج إليه من عملية سقي أو تقليم أو مداوات ، إنتظارا لما تنتجه من
فواكه إن كانت مثمرة .. أو ما تأتي به من فوائد أخرى.
والشاعر لا يراها على
الإطلاق في أنها شجرة.. بل هي ذلك الشبح الذي يشبه مفقوده الداخلي الذي ترن برنته
أحاسيسه وعواطفه .. وما أن يرى الشجرة حتى يترنح سكرانا بخمرة الطبيعة ، فتلج في
نفسه قوافي الشعر والأوزان ..
إنه يرى تلك الشجرة ،
كما لو كانت حبيبته التي فارقها منذ زمان .. وهي تناديه وتترجاه في الإنضمام إليه ومحاورته حوارا ينطلق
من وراء زقزقة العصافير ، ودبيب النمل ، وصهيل الخيل .. وأصوات الحيوانات الدنيا..
وهي تطلب منه تبادل الحب والعطف والحنان الذي ينطلق في أجنحة النحل.. والفراشات ..
وضربات الرعد ، وومضات البرق ، وطيات السحاب..
والرسام يختلف تماما ويراها
من وراء تلك الموهبة الفنية التي يعدم فيها ما هو مشوه منها وتحويله إلى جمال
ينطوي وراء جمال الطبيعة ، ليسمو به إلى جمال الكون كله..
أما الفيلسوف فيخرج عن
القاعدة تماما ويرى تلك الشجرة في أنها رمز أو صورة للشجرة الحقيقية التي مازالت
لم تظهر بعد.. فهي ليست شكلا ولونا كما يراها الإنسان العادي بل هي تعبير صادق
يدور حول إسجلاء الشكل الحقيقي للحياة..
أما الساحر أوالذي
يؤمن كثيرا بأوهام السحر نتيجة للبئة التي عاش فيها.. يرى أن كل شيء سحرا.. وما
يفسر الأحداث إلا تفسيرا سحريا..
فعندما يشعر بآلام في
منطقة ما في جسمه ، لا يردها إلى أسبابها الحقيقية ، بل يفسرها تفسيرا سحريا.. وما
يرى من تلك الشجرة إلا صلاحيتها للقيام بمواصفات سحرية معينة..
فالشجرة الجرداء من
أوراقها في نظره .. غير الشجرة التي توجد بها أوراق.. فتلك صالحة لعمل كذا ،
والأخرى صالحة لعمل كذا و كذا..
والشجرة المنتجة
للفواكه ، غير الشجرة التي لا تنتج هذه الفواكه.. وتواجد الشجرة في فصل الخريف غير
تواجدها في فصل الربيع.. من حيث صلاحيتها للأعمال السحرية،
وما هو من الحقيقة في
شيء سوى الظلال و الوهم..
إن نظرتنا للأشياء
توجهها خلفياتنا الفكرية ، فتوسمها أحيانا بالإنحراف عن معرفة الحقيقة .. وتطبعها
بطابع التعصب والأنانية الذي لا يخرج من دائرة الأحكام الذاتية.. والتخلي عن
الأحكام الموضوعية..
كما تجعلنا نختار
الأشخاص الذين يجب أن نسمع إليهم ، وهي التي تجعل على عيوننا غشاوة بصرية تدلنا
على صحة أحكامهم ولو كانوا خاطئين.
فالعدد 2 لا يمكنه أن
يكون إلا نتيجة للمجموع 1+1 في نظرهم ..
غير أن العدد 2 يمكنه
أن يكون نتيجة للمجموع +4 ، -2 أيضا...
ويمكنه أن يكون نتيجة
للمجموع -5 ، +3...
وخلاصة القول هو أن
عالم المثقفين ينقسم إلى قسمين.. قسم يرى بعينيه وقسم يري بعيني غيره..
وبعبارة أوضح .. إنه
يرى بأذنيه..
لكن ما سبب هذا
الإختلاف في الرؤيا نحو موضوع ما ؟
يرجع سبب ذلك إلى
مرحلة متقدمة جدا من عمر الإنسان..
إلى أيام الطفولة
الأولى .. وهي تلك التي تسمى بالمرحلة الفمية..
المرحلة الفمية ترتبط بالعلاقة
المزدوجة التي تحدث بينه وبين أمه في فترة الرضاعة.. حيث يكون الطفل مرتبطا
إرتباطا كاملا بأمه نتيجة للعلاقة البايولوجية التي تحدث بينهما.. إلى جانب تلك
العلاقة السايكولوجية ..
فالأم وما تقدمه للطفل
من الرضاعة ، تجعل هذه الرضاعة تخضع لآليات يمكنها أن تؤثر في شخصية إبنها مستقبلا
، وتحدد حتى إتجاهه الفكري.. وقد تتسبب في إصابته ببعض الأمراض المتعلقة بالجهاز
الهضمي والتي توضع تحت إسم الإضطرابات الغذائية.. ومن بينها قرحة المعدة ، أو
إضطرابات القولون[2]
في كبره.
وقد يخطأ الأطباء
حينما يرونها أنها نتيجة لإنتانات جرثومية تستلزم العقاقير الطبية .. فالمرض لا
يحدث إلا في المنطقة التي يكون لها الإستعداد لهذا المرض..الإستعداد العصبي بطبيعة
الحال.. وما دور الميكروب إلا ذلك الدور المتأخر من مراحل المرض.. حيث يهجم عندما تكون
منطقة الإصابة جاهزة.
والطفل يتلقى هذه
الرضاعة من أمه طبقا لحالتين مختلتين :
- الحالة التي يتلقى
فيه الطفل الرضاعة من أمه مباشرة بعد البكاء والصراخ والتعبير عن الشعور بعدوانية
هذه الأم نحوه.. وما يتلقاها إلا بعد نحيب وألم ومعاناة كبيرة..
إنه في هذه الحالة
يتعلم ميكانيزما أوليا يتراءى له فيه بأن الحياة قاسية ، ومتعبة ، ولا تؤخذ الأمور
فيها إلا بعد جهد ومعانات ، يتم فيها الإعتماد على نفسه ، ومواجهة الحياة مواجهة
عدوانية وبالقوة التي تستحقها..
وتجد مثل هؤلاء يميلون
لحب السلطة من أجل مسك زمام الأمور بأيديهم.. كما تسيطر عليهم غريزة حب
التملك la possession..
كما تجدهم ضحية السجون
والمحاكمات القانونية نتيجة لانقيادهم وراء الشعور بالعدوانية..
أما الفئة المثقفة
منهم ، فيميلون إلى الإنتقادات اللاذعة والهدامة في كثير من الأحيان.. ولا يعترفون
إلا بما هو ملموس من معطيات العلم التي تتراءى وراء التجريب..
فالأحكام النظرية ،
والمقولات السمعية ، التي يستبدل فيها الإنسان عينيه بأذنيه ، ملغية ومحذوفة تماما
من منهجهم المعرفي .. وقد تجد مبادراتهم الذاتية ساطعة في أي موضوع كان ، فيميلون
للبحث بأنفسهم لا في الإستماع لغيرهم..
- الحالة التي يتلقى
فيها الطفل هذه الرضاعة من أمه كأول مصدر بيولوجي وسايكولوجي ، بصورة لا تتطلب أي
مجهود .. فهو ينال حليب أمه في كل وقت دون بكاء أو صراخ أو معاناة..
فأمه تعطيه ثدييها
بصورة مبكرة ومسبقة قبل أن يشعر الطفل بحاجته إليهما.. وقبل أن يشعر بالجوع..
لقد قامت أمه بإعدامه
دون أن تدري.. لم تترك الفرصة لنمو أنا طفلها نموا طبيعيا ، فذاب في أناها..
هذا الطفل يتعلم
ميكانيزما أوليا يتراءى له أن الحياة سهلة وبسيطة ولا تتطلب أي معاناة ولا مجهود..
ينال الإنسان نصيبه دون التعبير عنه.. إنه سيتلقى ما يحتاج إليه من أمور الحياة ،
وما يحتاج إليه من معرفة من خلال الآخرين دون أي جهد أو تعب .. وهنا يبدأ
الإستعداد لانفصال الأنا عنه ليعيش بأنا الآخرين نتيجة لاعتماده عليهم مثلما كان
يعتمد على أمه في كل شيء.
فمبادرته الخاصة في
الموضوع ، إنعدمت بانعدام هذا الأنا الذي ذاب في أنا أمه ، وسيزداد ذوبانا في
شخصيات الآخرين ..
سيبحث عنهم بطبيعة
الحال في الكتب ، والجرائد ، والمجلات ، والقنوات التلفيزيونية ، ومواقع
الأنترنيت.. وفي نظره أن كل كلمة يقولونها هي صحيحة لأبعد الحدود..
ولا يستطيع أن يعرف أن
مجموع الواحد مع الواحد هو إثنين إلا إذا سألهم عن صحة ذلك.. وهو ما يسمى بمرض
الإرتياب..
تتعرض هذه الفئة إلى
حالة فقدان الثقة بالنفس ، والتعرض لمرض الإرتياب.. إلى جانب إنعدام جوهرهم
الميتافيزيقي المتمثل في فقدان الأنا ، وزوال تلك الفطرة الربانية فيهم..
سيتغلب الجانب السمعي
على الجانب الحسي لديه.. أي تتغلب أذناه على عينيه..
وبالتالي تتغلب الرؤيا
الخارجية عن رؤيته الداخلية ، ومن هنا تبدأ المعاناة في شكلها الحقيقي دون أن
ينتبه إليها ، بطبيعة الحال لأن إنتباهه لا يمكن إلا بواسطة الأنا الذي إنعدم
بضربات الجلاد القادمة من خارج نفسه..
ومن الأعراض الشائعة
لهذه الحالة هو شعور الإنسان بأن زمام أمره قد أفلت من يده.. لا يستطيع أن يقوم
بشيء.. ولا أن يعمل شيئا.. خائر القوة ، فاقد الإحساس بطعم الحياة ذلك لأنه يشعر
بشعور الآخرين ويأكل بفمهم .. وسيعلل ذلك باسباب أخرى ، كالشعور بالكبر مثلا.. أو
السحر.. أو المس الجني .. أو الحسد ..
وما عليه أن يعلل ذلك
إلا باعترافه بأن أناه قد سيطرت عليه أنوات أخرى. وأصبح معدوما ومشلولا لا يستطيع
العمل إلا بالغش للمعلومات الخاطئة في كثير من الأحيان..
كما يتعرض هؤلاء إلى
حالة التقديس..
فمن تقديس الأبوين ،
كمنزهين عن الأخطاء.. إلى تقديس المعلمين والأساتذة .. إلى تقديس بعض الشخصيات من
المجتمع.. إلى تقديس أشباه العلماء.. إلى تقديس الأئمة والمفسرين.. إلى الكارثة..
وتتنثل الكارثة في ظهور
أعراض بسيكوسوماتية يصعب تشخيصها..
وخلاصة القول هو أن
المثقفين يتواجدون على قسمين :
قسم يحفظ المعلومات عن
الآخرين خارج إطار نفسه..
وقسم يبحث عن هذه
المعلومات داخل إطار نفسه..
قسم يعتمد على التقاط
المعلومات إعتمادا على العقل الذي يقف فاشلا في تفسير معظم الأحداث.. ذلك لأنه
إستبدل عينيه بأذنيه..
وقسم يعتمد على إلتقاط
هذه المعلومات إعتمادا على إحساسه الداخلي وبصيرته..
وشتان فرق بين العقل
والبصيرة..
قسم يطل من الشباك
باحثا عن أصحاب المعلومات.. كما لو كان في شباك سجن محكم..
وقسم يطل من وراء
بصيرته بالموضوع..
قسم يستفتي الناس في
كل شيء..
وقسم يستفتي نفسه ،
إستجابة لحديث نبيه (ص) :
" إستفتوا أنفسكم
"
ذلك لأن الحقيقة هي
ذلك الجوهر الذي بعث الله به في قلوب الناس كلهم منذ انحدارهم للحياة.. وما ياتي
العالم إلا فقط ليذكرك بها ، لا أن يعلمك إياها.. لأنك تعرفها معرفة اليقين ، وأنت
تتجاهلها فقط نتيجة في أنك أعدمت الأنا باستماعك إلى أنا الغير.. ولذلك يقول
سبحانه وتعالى :
" وعلم آدم
الأسماء كلها "
فأنت تعلم حقائق كل
الأشياء في هذه الحياة ، وهي مختبئة في عقلك ، لكنها محجوبة عنك ، بسبب تغطيتها بمعلومات
الآخرين.. ولو نزعت الغطاء لعرفت الحقيقة [3].. فلا داعي في أن تتعلمها
مغشوشة من الآخرين.. وخذها من داخل نفسك الطاهرة بالطهارة التي خلقك الله عليها..