اعلان

الأربعاء، 6 مايو 2015

الأسباب النفسية للرفض



                                   
بين الفكرة والكلمة
عندما نتكلم من أجل التعبير عن فكرة ما ، فإن اللسان هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن هذه الفكرة..
وغالبا ما يكون اللسان عاجزا عن إعطاء مفهوم حول الفكرة التي تدور في مجال وعيه.. بل يشعر أحيانا أن المفردات التي يمتلكها غير كافية للتعبير ، من أجل إعطاء لمحة كاملة عن هذه الفكرة..
إن هذا العجز يدفعه في الغالب إلى التعبير بحركات يديه في شكل تقديم إشارات ورموز من شأنها أن تقرب المفهوم للمستمع ، ما دامت اللغة عاجزة عن الإستكمال..
وتظهر تعابير أخرى من غير حركات اليدين ، وهي تلك التي يقوم بها الجسد بصفة عامة ، كاحمرار الوجه ، واصطكاك الأسنان ، وإغماض العينين ، وعض الشفتين.. والهمز والغمز واللمز..
وعندما تعجز هذه الوسائل كلها في تبليغ الأمانة ، فإننا نلجأ إلى الصمت..
وبالرغم من أن هذا الصمت هو الدليل الكافي في العجز والفشل عن إكمال الرسالة المعرفية ، إلا أنه من ناحية أخرى يعتبر وسيلة من وسائل التعبير ، في شكل لغة صامتة ..
وقد نلجأ في كثير من الحالات إلى إبتكار كلمات من شأنها أن توصل المفهوم إلى المستمع .. وقد تنطلق هذه الكلمات لأول مرة على ساحة المعرفة ، إلا أن الدراية بها من طرف المستمع يكوّن شكلا واضحا من صعوبة الفهم أيضا، مما يؤدي إلى النقد والإنتقاد..
والإنتقادات مهما بلغت من الدقة والإنتباه ، ومهما كان الإستعداد العلمي والأدبي لصاحبها ، إلا أنها دائما وسيلة من وسائل التعبير أيضا عن العدوانية نحو الفكرة المطروحة..
فالعدوانية تتم بطرق شتى ، كالعدوانية باستعمال العنف مثل الضرب باليد والعقوبات الجسدية ، أو العزل حيث يتجنب الشخص المبغوض.. أو عدوانية باللسان عن طريق السب والشتم ، أو بالإنتقادات الجارحة..
ومهما كانت الأسباب النفسية للإنتقادات ، فإنها ترجع إلى جهل الإنسان للموضوع الذي ينتقده ..
والناس أعداء ما جهلوا..
فالجهل يؤدي إلى العدوانية..
والعدوانية تؤدي إلى الإنتقاد..
والإنتقاد يقصي صاحبه من ساحة المعرفة.. فلا يكتسب الجديد ، إلا ما يعرفه هو معرفة مكتسبة من طرف الغير..
إنه نوع من الرفض.. رفض الإعتراف بالواقع.. وهو الشكل الأعلى من التعبير عن العدوانية ..
إن هذا الرفض ليس جديد العهد بالنسبة للإنسان مهما بلغ عمره الزمني.. بل يرجع أساسا إلى ذلك السلوك الذي إتخذه وقت طفولته تجاه موقف ما كأخيه الأصغر منه مثلا ، والذي كان ينافسه في محبة الأبوين وامتلاكهما لنفسه..
فالوسيلة الوحيدة التي يستعملها الطفل في المبارات مع أخيه إنسياقا وراء غريزة حب التملك إنما هي ذلك السلوك المتميز بالرفض..
سيرفض لا محالة الإعتراف بوجود أخيه..
وهذا السلوك المتميز بالرفض إنما له عواقب نفسية وخيمة وفي طليعتها فقدان الذاكرة[1].. وعدم القدرة على إسترجاع المعلومات في وقتها المناسب ، ويحدث ذلك كثيرا في الإمتحانات العامة ، حيث تحدث إهتزازات من أجل التعبير عن الفكرة الموضوعة كسؤال في هذا الإمتحان إلا أن القدرة عن هذا التعبير تكون غير متوفرة ..
فرفض الإعتراف بالواقع إنما هو إمتداد للسلوك الرفضي الذي كان يستعمله الإنسان تجاه أمر ما وقت طفولته.. ذلك لأن هذا الواقع يهدد وجوده من جهة ، كما يهدد كيانه أو بنيته المعرفية من جهة أخرى..
والبنية الفكرية أو المعرفية للإنسان لها علاقة وطيدة جدا بحالة التثبيت[2] ..
فعندها يصنع الإنسان مجموعة من الأفكار والتصورات والمبادئ التي لا تسمح له بتغييرها ، وقد يتعرض لإضطرابات عند تلقي ما يعاكسها.. وهو ما يظهر تماما عند قراءة الإنسان لفكرة ما ، أو إستماعه لها من شخص آخر ، والتي تعاكس تماما مايدور في ذهنه من الأفكار الملتصقة بحالة التثبيت .. هذا يجعله بطبيعة الحال يسلك سلوكا عدوانيا تجاه ما يقرأه أو ما يستمع إليه ، والإنتقادات هي الشكل الأعلى من هذه العدوانية.. ذلك لأنه يبدأ في الشعور بعدم الأمن على نفسه وعلى معتقده الراسخ في ذهنه..
فتلك الأفكار التي يتبناها هي تلك التي واجه بها الصراع وقت طفولته من أجل خلق التوازن بين فكرتين متضادتين في نفسه..
وإذا ما تعرضت هذه الأفكار إلى إهتزازات من طرف ما يقرأ أو ما يسمع فإن صراع الطفولة يعود من جديد[3] ، مما يلزمه بالتصدي العدواني عن طريق الإنتقادات الجارحة للموضوع المثار ، وهو بذلك يهرب من الحقيقة إلى خلق التوازن النفسي ولو كان ما يسمعه صحيحا[4]..
والطفل يتصدى للعدوان تجاه كل جديد مما يعاكس رغباته ، وأفكاره ، ويمس كيانه الأمني.. حيث أن ولادة طفل جديد ، أو ميل الأبوين لحب أحد الأطفال من أخوته ، أو تقسيم حصص الأكل بصورة تفضيل لأحد الأطفال عنه ، أو... إنما من شأنها أن تعزز السلوك العدواني لهذا الطفل مبادرة برفض الإعتراف .. وهو نفس السلوك الذي يتبناه في ما بعد تجاه القراءة أو الإستماع لفكرة جديدة ، فيتصدى لها بالعدوان عن طريق الإنتقادات الجارحة إنسياقا وراء الآليات التي يحملها اللاشعور..
ولو ضربنا في ذلك مثلا ، عند إستماع أحدنا إلى الإنجازات التي قام بها أهل التصوف ، في التربية الروحية للناس ، وإصلاح سلوكهم ، وكراماتهم .. فإن ذلك يجعل الفكر يقفز قفزة لا شعورية إلى مرحلة طفولته حيث كان التفضيل والمديح والشكر لأحد إخوته عنه.. وسرعان ما ينطلق الصراع الذي يجبر الإنسان على إتخاذ وضعية دفاعية.. فلن يجد سوى رفض الإعتراف المتميز بالإنتقادات الجارحة ، وقد يتبنى الإتجاهات التي تؤيد موقفه العدواني وربما سيجد ذلك في مذهب ظال..
هذه الفئة التي راحت ضحية عوامل نفسية لاشعورية ، تجدها عاكفة على البحث في الكتب والمجلات والجرائد والقنوات التيليفيزيونية ، ومواقع الأنترنيت عما يؤيد مواقفهم العدوانية ..
ومواجهتهم أو وعظهم غير ممكن بتاتا إلا عن طريق ما يسمى باللغة الصامته ..     
يظهر المواجه في هذه الحالة بدور الصمت التام ، والتظاهر بالتأييد المطلق لأفكارهم ، فلا يقول إلا كلمة واحدة وسط مئات الكلمات .. لكي لا يصدمهم بالحقيقة دفعة واحدة .. ويوما بعد يوم تتحد هذه الكلمات مع بعضها في مجالها اللاشعوري وتتحول إلى حتمية الرجوع عن الظلال..
هذا الموضوع سوف يتم إستكماله في صفحات أخرى من هذه المدونة تحت عنوان :
" اللغة الصامتة ".


[1] - مدرسة التحليل النفسي ، ميكانيزمات الدفاع
[2] - هي مرحلة غير ناضجة من مراحل نمو الإنسان وقت طفولته والتي يثبت عندها ويحن بالعودة إليها...
[3] - حالة النكوص
[4] - ميكاكيزمات الدفاع النفسي تجاه الأوضاع الصراعية

ليست هناك تعليقات: