قد يحدث لبعض الناس أن يصابوا بأعراض نفسية أليمة عقب
صدمة نفسية عنيفة .. أو عقب التعرض إلى الفشل والإخفاق في مسألة ما ، كالإخفاق في
الحب أو الزواج أو أي عملية جنسية غير موفقة.. أو نتيجة لدخولهم في ظروف مشابهة
للظروف التي حدثت فيها صدمة نفسية وقت الطفولة والتي سقطت في اللاشعور.. أو نتيجة
للتعرض لخسارة مالية كبيرة .. إلى غير ذلك من الأسباب..
تتميز الأعراض غالبا بفقدان الوعي لفترات محدودة ، وعدم
القدرة في السيطرة على النفس وضبط السلوك ، وظهور هواجس ومخاوف ، أو ظهور هلوسة
سمعية أو بصرية أو حتى لمسية..
إرتجاف وظهور حركات جسدية مخيفة ، تؤدي إلى الظن في كثير
من الأحيان بأنها حركات جني أو شيطان.. وقد يحدث فيها إعوجاج باليدين ..
أو يظهر الشخص بقوة غير معتادة فيه ، فيستطيع أن يتحدى مثلا
هجوم العائلة في الوقت الذي تريد السيطرة عليه من أجل علاجه.. حيث أن الجانب
العدواني يسيطر على معظم سلوكياته.
وغالبا ما يظهر تشويه بالجسم ، حيث تصغر العينان إلى أن
تصبحا في شكل نقطتين على الوجه.. ويصعد الفك السفلي فوق العلوي في منظر عجيب ومخيف
، إلى جانب ما يبعثه من الإشمئزاز والرعب في نفس الملاحظ..
لكن الأمر الذي يبعث إلى الإثارة بشكل أكثر ، هو الكلام
الذي يصدر عن المريض المخالف لطبيعته وعادته ، كأن يتغير صوت الأنثى إلى صوت ذكر..
أو يتغير صوت الذكر إلى أنثى.. أو يظهر كلامه على شكل نباح كلب أو مواء قط...
وقد يظهر جانبا كبيرا من إطلاع المريض على أمور غيبية
بحتة ، فيقول بمجيء فلان اليوم وهو على طريق كذا.. أو سيحدث اليوم كذا وكذا ،
وغالبا ما تكون النتائج صحيحة إلى حد ما..
كما قد يتحدث
المريض بلغة لا يعرفها من قبل ، وهو بطبيعة الحال لم يتعلم في مدرسة ولم يمسك
القلم طوال حياته..
هذه الملاحظات الغريبة ، تقود الملاحظ إلى إستنتاج بأن
ما يحدث أمامه ما هو إلا من فعل مس جني لا غير.. من حيث أنه لا يمكن القيام بها
إلا من طرف الجني الذي تتوفر فيه هذه المقدرة الخارقة للطبيعة ..
في حين أن مقدرة الإنسان تتعدى حدود ما يقوم به الجن ،
وأنه بإمكانه أن يعمل أكثر وأعقد من هذه الملاحظات..
هذه الأحكام تصدر عن أناس ولدوا في بئة جهل تؤمن كثيرا
بالسحر والشعوذة ، كما تؤمن بتحركات الجن وسيطرته اللاأخلاقية والوهمية على بني
البشر..
وقد تعرض أولاد هذه البئة بالمفعول الوراثي من أجدادهم
القدماء إلى هذه المعرفة التي تسايرت معهم قرونا عديدة من الزمن ، حيث يصعب
إقناعهم بأي شكل من الأشكال بالإتجاه المعاكس ، وبالحقيقة التي جاء بها القرآن حول
وهمية هذا الموضوع ..
فيشخصون هذه الأعراض بمفعول المس الجني ، ويرون أن علاج
ذلك يتواجد وراء ما يسمونه بالرقيا الشرعية.. حيث يقوم الراقي المعالج بقراءة
القرآن على المريض ، إلى أن يدخل في شبه غيبوبة ، نتيجة لقوة التركيز التي يوجهها إليه
، ونتيجة لقوة الإعتقاد المنبثقة عن البئة التي يعيش فيها .. حتى يتكلم هذا الجني
الوهمي ، ويسأله الراقي عن سبب مجيئه ومسه لهذه الجثة ، ثم يضغط عليه بالخروج ويحدث
الشفاء.
لكن في الحقيقة يحدث اللاشفاء ، أو الشفاء المؤقت.. كما
لوحظ ذلك آلاف المرات..
ذلك لأن الجني الذي كان الراقي يعتقد أنه يكلمه ما هو
إلا صدى العقل الباطني للإنسان الذي يحمل صدمة نفسية مؤلمة منذ طفولة هذا المريض..
وأن الراقي كان يتكلم مع تلك الصدمة لا غيرها..
وبإمكان هذه الصدمة أن تقوم بعلامات معقدة تؤثر فيها على
المستوى العقلي والجسدي والسلوكي لدى الإنسان المريض.. كما تقوم بظواهرغيبية خارقة
تجعل صاحبها يتمتع بقدرة كبيرة على التنبؤ بما يحدث مستقبلا..
ولهذا يقول سبحانه وتعالى:
" وفي أنفسكم أفلا تعقلون"
واللغة االتي تكلم بها هذا المريض ، إنما كانت موجودة في
عقله الباطني من قبل أن يولد ، وانتقلت بصورة وراثية عبر الجينات من شخص لآخر ،
حتى وصلت إليه عن طريق الصدمة التي ضربت صميم عقله الباطني فحركت تلك اللغة التي
تكلم بها ، والتي كانت كمينة في نفسه ، إشارة بالآية :
" وعلم آدم الأسماء كلها "
فالله سبحانه وتعالى ، أودع جميع العلوم ، بما فيها من
مفاهيم ولغات في عقل آدم ، وانحدرت إلينا عن طريق عامل الوراثة مختبئة في عقلنا
الباطني.. ويتحرك هذا العلم أو هذه اللغات عند التعرض لصدمة نفسية عنيفة يتم
خلالها فقدان الوعي لفترة زمنية محدودة..
و الشفاء الذي يحدث لا يدوم طويلا ، بل تعود الأعراض مرة
ثانية حينما تتوفر لها فرصة الظهور التي أظهرتها في السابق.. لكن كل من المريض
وأهله والراقي حينما يرون عودة الأعراض من جديد ، يعتقدون بعودة الجني مرة ثانية
ويباشرون بالرقيا من جديد..
وفي هذه الحالة ، أي عندما تعود الأعراض مرة ثانية أو
ثالثة يصعب جدا إيقافها سواء عن طريق الراقي أو غيره .. ذلك لأن العقل الباطني لدى
المريض تفطن وانتبه إلى الخدعة التي إستعملها له الراقي المتوهم ، فلا يسقط مرة
أخرى في هذا الخداع..
ولذلك نرى الكثير ممن تعرّضوا لهذه الحالات ، إنتهت
نتيجتهم باليأس واصبحوا يطوفون حول مستشفيات الأمراض العقلية ، وحذفوا من أذهانهم
تماما مسألة المس الجني والرقيا الخادعة ، في وقت متأخر جدا بالنسبة لصحتهم بعد أن
جربوها مرارا وتكرارا ..
عندما يتكلم الراقي مع الجن الوهمي ، يتطرق به عن سبب
مجيئه إلى هذه الجثة ، ومسه إياها .. وغالبا ما تكون إجابته بأن مجيئه كان بسبب
أحد السحرة قد أرسله..
أو بسبب سحر قام به شخص معين بالتحديد.. وكثيرا ما يكون
هذا الشخص هو زوجة المريض نفسه.. فيعطيه إسمها وأوصافها واليوم الذي قامت به
بالسحر.. وهي بريئة تماما مما يصفون..
ومن يومها يحدث التوتر بين هذين الزوجين ، والتنافر
بينهما.. ويوما بعد يوم يزداد النزاع أكثر لدرجة الإنفصال في كثير من الأحيان ،
ولذلك يقول سبحانه وتعالى:
" ويتعلمون ما يفرقون به بين المرء وزوجه "
والشيء الذي دفع بهذا المريض أن يذكر إسم زوجته ويتهمها
بالسحر دون أن يدري ، إنما يعود إلى حدوث نزاع مسبق بينهما ، وشكه فيها في كثير من
الأمور ، وخاصة في ما يتعلق بالجانب السحري ، لكنه كان يكبتها ، فخرجت من عقالها
عندما كبت الراقي وعي المريض[1]..
فالزوجة التي كانت متهمة بقيامها بالسحر ، وهي بريئة ،
شريفة طاهرة ، إنما أصبحت هي المسحورة بما قاله زوجها إستعانة بالراقي..
لقد تعرضت لأذى هذا الراقي وخدعته الذي لم يتعمد ذلك
طبعا ولكنه راح ضحية مفاهيم خاطئة .. وما على هذه الزوجة البريئة إلا أن تقول من
أعماق قلبها :
" حسبي الله ونعم الوكيل "
وبطبيعة الحال ، فإن ما قام به هذا الراقي المتوهم ، هو
السحر بعينه الذي أشار إليه القرآن الكريم في ثلاثة وستين آية متكلمة عن السحر..
وغريب الأمر أنهم يعتقدون بأن السحر الذي قامت به هذه
الزوجة البريئة ، تم عن طريق إتصالها بأحد حملة القرآن الكريم الذي كتب لها القرآن
على أوراق وأعطاهم إياها من أجل تنفيذها بمواصفات معينة كالشرب أو الدهن أو
التعليق..
وهذا هو السحر في نظرهم ..
السحر عندهم - والعياذ بالله – هو كتابة القرآن ..
والساحر هو الحامل لهذا القرآن..
ونسي هؤلاء كلام الله فأنساهم الله أنفسهم.. ولكن لا
يشعرون..
إن السحر في القرآن الكريم هو :
" النفاثات في العقد "
وليس ما يكتبه القلم من القرآن الكريم..
فالله يصف القرآن بأنه :
" قرآن مجيد في لوح محفوظ " وليس سحرا..
و لو فحصنا ذلك المريض فحصا نفسيا أو طبيا ، لوجدنا أنه
يعاني من أسباب أخرى لا علاقة لها بالجن أو بالسحر إطلاقا..
فهو يعاني من إضطرابات عصبية ، بسبب صدمة نفسية ، صربت
صميم عقله الباطني فخرج ما به من مكبوتات قديمة ، ترجع لوقت طفولته..
كما لو قمنا
بتحريات أخرى لوجدنا أن هذا الشخص المتهوم أي الزوجة الشريفة لا تعرف شيئا عن
السحر إطلاقا..
وهذه الزوجة التي ذهبت ربما إلى حامل القرآن الكريم
لتشتكي له من ظلم زوجها مصداقا لقوله عزوجل :
" قد سمع الله قول التي تشتكي من زوجها "
إنما دفعها لذلك إيمانها بالله ، الذي سوف تجده من وراء
القرآن الكريم وحملته الذين لا يعرفون من حياتهم سوى هذا القرآن الذي يستنجدون به
عند الضرورة ، ويدافعون به عن المظلومين ، نظرا لما فيه من كرامات أعطاها الله
لعباده المؤمنين ..
إن كرامة القرآن توجد في كتابته ، بيد طاهرة ، وقد
أعطاها الله لكل عباده المؤمنين الذين يحرزون على قدر كبير من التقوى والإيمان..
والذنب الوحيد الذي إرتكبه حامل القرآن الكريم هو قراءته
لهذا القرآن الذي يعتبره بعضهم سحرا .. لأن القرآن وحامل هذا القرآن في نظرهم شيء
واحد وهو السحر..
إن هذا النوع من
العلاج اللاشرعي ، الذي يتم عن طريق الرقيا ومكالمة الجن والإستفسار منه عن سبب
إيذائه للبشر.. قد هدم بيوتا ، وحطم منازل ، وفرق الأزواج ، وعرّض الأطفال إلى
اليتم ، وملأ العيون بدموع المأساة.. إن لم أقل قد وصل إلى جرائم قتل كاملة في
كثير من الأحيان .. والناس لا تزال على هذا الإيمان الأعمى الذي لا تؤيده الشريعة
الإسلامية..
وما يثبت الدجل ، هو أن المريض حينما يوجه
إليه الراقي سؤالا ، فإنه لا يجيب إلا عن
أشياء موجودة في وعيه بمعرفة مسبقة ، ولا يتكلم إطلاقا عن أشياء غير موجودة في هذا
الوعي .. فإذا كان يشك في أن فلان هو الذي سحره فإنه أثناء الرقيا كما لوكان تحت
تأثير التنويم المغناطيسي ، ينطق عقله الباطني بمحتوى ما هو موجود في وعيه .
وقد يكون هذا الراقي قد قام بهذه الأخطاء
الخطيرة ، عن حسن نية طبقا لما يعتقد به من الأوهام ، دون أن يتعمد الإيذاء ..
لكنه يكون أصما عندما تريد وعضه ، ولا يستمع إليك بحجة أنه يملك الحقيقة المطلقة
.. وما أن تبدأ في محاورته حتى يستدل بأحاديث وآيات لا علاقة لها بالموضوع على
الإطلاق..
فقد يستدل بالآية :
" خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلق
الجان من مارج من نار"
والآية كما نراها واضحة تتكلم عن خلق الجن ،
بينما لم تتكلم عن مس هذا الجن للبشر..
فالخلق شيء..والمس شيء آخر..
أو يستدل بالحديث :
" إن الشيطان يجري في الإنسان مجرى
الدم في العروق"
لكنه يجري في العروق بالوسوسة التي ذكرها
الله سبحانه وتعالى في سورة الناس..
فالوسوسة شيء .. والمس شيء آخر.
وعموما ، فإنه من لديهم الرغبة في إشهار
السحر والمس الجني ، هم الذين يؤمنون بهذا السحر والمس..
أما الذين لديهم الرغبة في إشهار العلم الذي
جاء به القرآن الكريم فإنهم يقفون بالمرصاد ضد هذه المفاهيم البتراء..
وعلى العكس من ذلك ، نرى بعض الرقاة يقومون
بقراءة القرآن على المريض ، لا أكثر ولا أقل .. ولا يتطرقون أبدا إلى ذلك الجانب
من الشعوذة عن طريق إدعائهم بمكالمة الجني.. وقد يقرؤون القرآن على الماء ويعطونه
للمريض من أجل أن يشربه..
إن مثل هؤلاء يمثلون الجانب المطهر والمقدس
من الرقاة ، لأنهم لم يظلموا أحدا بألسنتهم ولم يتسببوا في شيء من
المنكرات..وإخلاء البيوت..
أما الفئة الثانية فعليهم أن تتقوا الله حق
تقاته ، ويتوبوا عن ذنوبهم ، ويذكرون يوما لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى
الله بقلب سليم.